تعديلات سريّة المصارف مجددًا: “الاحتيال” النيابي مستمر

مرّ نحو شهر ونصف الشهر على ردّ رئيس الجمهوريّة لقانون تعديلات سريّة المصارف، بعدما أصدر صندوق النقد مذكّرة بيّنت أوجه القصور في هذه التعديلات، وعدم تطابقها مع ما طلبه في إطار التفاهم على مستوى الموظّفين مع لبنان (راجع المدن). ومنذ ذلك الوقت، نام الرد مع الملاحظات المرفقة فيه في أدراج لجنة المال والموازنة، قبل أن يقرّر رئيس اللجنة إبراهيم كنعان أخيرًا إيقاظه من جديد، وعقد اجتماعاً لمناقشة التعديلات التي طلبتها الرئاسة. ومجددًا، خرج النوّاب من اجتماع اللجنة من دون أن يفهموا ما تم إقراره، ولا ما جرى التصويت عليه، تمامًا كما جرى في الجلسة العامّة التي شهدت إقرار القانون في السابق، حين حدث إقرار القانون بصيغة غامضة وملتسبة، لم تتبيّن تفاصيلها إلا بعد إحالته للتوقيع من قبل رئيسي الحكومة والجمهوريّة.

نصوّت ثم نفاوض على الصياغة

ببساطة، على من يهمّه الأمر انتظار التقرير الذي سيحيله رئيس اللجنة إبراهيم كنعان إلى الهيئة العامّة، قبل التصويت على التعديلات مجددًا. وتمامًا كما جرى بعد التصويت على القانون في الهيئة العامّة، قبل ردّه من قبل رئيس الجمهوريّة، يبدو أن كنعان سيفاوض في جميع الاتجاهات لوضع الصياغة الأكثر ملاءمة لجميع الأطراف، بدل إحالة مقرّرات واضحة موافق عليها في لجنة المال والموازنة. باختصار، تقمّص كنعان في لجنته الدور الذي احترفه رئيس المجلس النيابي في الهيئة العامّة للمجلس، مستخدمًا قاعدة: نصوّت على العموميّات الغامضة، ثم نفاوض لاحقًا عند الصياغة.

ويبدو أن هذه القاعدة بالتحديد باتت اللعبة المفضّلة حين يتصل الأمر بالمسائل الماليّة والاقتصاديّة، بالنظر إلى تشعّب وتعقّد تفاصيلها، وتعدد الجهات التي “تحضر ملائكتها” (أو بالأحرى شياطينها) لتفاوض عند الصياغة، كجمعيّة المصارف ومصرف لبنان والهيئات الاقتصاديّة وغيرهم. وبما أن رضى هؤلاء يتوقّف على أفخاخ تصنعها عبارة من هنا أو كلمة من هناك، فالأفضل ترك التفاوض معهم إلى مرحلة الصياغة، بعد التصويت، وهذا بالضبط ما جرى بعد التصويت على بنود القانون في الهيئة العامّة سابقًا. وهذا ما يبدو عليه الحال اليوم مرّة أخرى، بعد جلسة لجنة المال والموازنة الأخيرة.

مع الإشارة إلى أنّ تريّث لجنة المال والموازنة لنحو شهر ونصف الشهر بعد ردّه من قبل رئيس الجمهوريّة، قبل درس القانون مجددًا هذا الأسبوع، يشبه تريثّها لمدّة سنة ونصف السنة بعد رد القانون لأوّل مرّة من قبل الرئيس في صيف العام 2020، في تطبيع لأسلوب دفن الردود والمسارات التشريعيّة، بانتظار الظروف التي تفرض إعادة البحث فيها، أو بانتظار التفاوض على هذه المسارات مع من يعنيهم الأمر.

وكان المجلس قد أقرّ قانونًا لتعديل سريّة المصارف في أيّار 2020، قبل ردّه في حزيران 2020 من قبل رئيس الجمهوريّة، طالبًا إضافة بنود اشترطها صندوق النقد الدولي خلال التفاوض معه. وبعد الكثير من المماطلة، أحالت لجنة المال والموازنة نسخة أخرى من القانون إلى الهيئة العامّة في تمّوز 2022، قبل التصويت عليها في الهيئة العامّة، ومن ثم ردها مجددًا من قبل رئيس الجمهوريّة في أواخر شهر آب الماضي، لعدم ملاءمتها -مرّة أخرى- شروط صندوق النقد الدولي. وفي كل هذا المسار، كان من الواضح أنّ ثمّة مصالح كبيرة تتعارض مع الشروط التي يطلبها صندوق النقد، والتي تفتح المجال أمام ملاحقة الجرائم الماليّة والمخالفات المصرفيّة من قبل القضاء ولجنة الرقابة على المصارف، بمجرّد إسقاط ستار السريّة المصرفيّة عن الحسابات المعنيّة بهذه الملفّات.

نقاشات لجنة المال والموازنة: كنعان ضد ملاحظات عون

في نقاشات لجنة المال والموازنة، كانت الفوضى سيّدة الموقف، بدءًا من مناقشة صلاحيّة الرئيس برد القانون من دون إطلاع مجلس الوزراء مجتمعًا على الرد. في جميع الحالات، ومع بدء البحث بطلب رئيس الجمهوريّة إعطاء النيابات العامّة حق رفع السريّة المصرفيّة، خلال مرحلة التحقيقات الأوليّة وقبل إحالة الملفات إلى قضاة التحقيق، تبيّن أن الغالبيّة الساحقة من أعضاء اللجنة يتحفّظون على منح النيابات العامّة هذه الصلاحيّة، بمن فيهم رئيس اللجنة نفسه إبراهيم كنعان. مع الإشارة إلى أنّ كنعان حاول الإيحاء خلال النقاشات داخل اللجنة بأن ما يقدّمه من آراء مستند إلى محادثات مباشرة بينه وبين صندوق النقد، في محاولة لتطمين النوّاب لردّ فعل الصندوق إزاء مقرراتهم.

أمّا في ما يتعلّق بإعطاء لجنة الرقابة على المصارف صلاحيّة رفع السريّة المصرفيّة، فرأت غالبيّة النوّاب ضرورة ربط هذه الصلاحيّة بمسار إعادة هيكلة المصارف، من دون منح اللجنة هذه الصلاحيّة بشكل دائم لمراقبة المخالفات المصرفيّة. وبذلك، تكون لجنة المال والموازنة قد اتجهت مرّة جديدة لتفريغ القانون من جزء أساسي من أهدافه التي كان من المفترض أن يحققها. أمّا في ما يتعلّق بجميع الملاحظات الأخرى التي وردت في رد رئاسة الجمهوريّة، فكانت الفوضى سيّدة الموقف، إذ اكتفت اللجنة بفتح الباب للملاحظات والآراء المختلفة من دون التصويت بشكل واضح على أي تعديلات أو مقرّرات.

لكل هذه الأسباب، يبدو أن الهيئة العامّة لمجلس النوّاب ستتجه مرّة جديدة إلى التصويت على نسخة مفخّخة جديدة من هذا القانون، بعد أن تبيّن أن طريقة تعامل المجلس النيابي ورئيس لجنة المال والموازنة مع مسألة التعديلات لم تختلف، وأن الآراء التي أبداها النوّاب داخل اللجنة لم تختلف عن أجواء التصويت الأخير على هذا القانون. وفي خلاصة الأمر، سيكون تعثّر مسار إقرار التعديلات التي طلبها صندوق النقد سببًا آخر لتعليق العمل بالتفاهم المبدئي المعقود معه، إلى جانب الأسباب الأخرى المرتبطة بتعثّر تنفيذ سائر الشروط المذكورة في هذا التفاهم.

 

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةالتنقيب بعد الترسيم: تهليل مبكر وثلاث سنوات حاسمة
المقالة القادمةإطلاق ورشة عمل صينية-لبنانية عن التجارة الإلكترونية