خطة نهوض بالقطاع المصرفي… أم خطة إضافية لتذويب حقوق المودعين؟

تضمنت ورقة الحكومة المعنونة «استراتيجيّة النهوض بالقطاع المالي» (FSRS):

• إقراراً بوجود «خسائر ضخمة تكبّدها مصرف لبنان نتيجة قيامه بعمليات مالية، هدفت إلى جذب تدفقات رأس المال للحفاظ على سعر الصرف الثابت المُبالغ في قيمته ولتمويل العجز في الموازنة».

• سعياً لإعادة تكوين رأسمال مصرف لبنان. حيث تشير التقديرات الاولية الى ان رأس المال السلبي يزيد على /60/ مليار دولار أميركي.

• توجهاً أولياً لالغاء جزء كبير من التزامات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية تجاه المصارف، وذلك لتخفيض العجز في رأسمال مصرف لبنان واغلاق صافي مركز النقد الاجنبي المفتوح للمصرف (Net Open FX position). وإعادة رسملة جزئية لمصرف لبنان بسندات سيادية قدرها /2.5/ مليار دولار أميركي يمكن زيادتها إذا إتسق ذلك مع قدرة الدولة على تحمّل الديون. أمّا ما تبقى من الخسائر السلبية في رأس المال فسوف تُلغى تدريجياً على مدى 5 سنوات.

• إعادة رسملة المصارف القابلة للاستمرار، بالتوازي مع حلّ المصارف غير القابلة للاستمرار (من دون تفصيل في ما خص حقوق المودعين في الحالتين).

سيتم التركيز في ما يلي فقط على موضوعين مترابطين في الخطة هما:

(1) اعادة رسملة مصرف لبنان

(2) شطب والغاء جزء كبير من التزاماته بالعملات الاجنبية تجاه المصارف

قانون النقد والتسليف… ماذا يقول؟

تنص الفقرة 4 من المادة 113 من قانون النقد والتسليف على انه اذا كانت نتيجة سنة من السنين عجزاً، تغطى الخسارة من الاحتياط العام. وعند عدم وجود هذا الاحتياط او عدم كفايته تغطى الخسارة بدفعة موازية من الخزينة.

هذا الوضع، تحويل خسائر المصرف المركزي إلى الخزينة خيار جذاب لحكام المصارف المركزية. ومعتمد في غالبية الدول باستثناء عدد محدود منها مثل استونيا ولاتفيا وليتوانيا وطاجكستان و… حيث تنص قوانين هذه الدول على عدم ضمان الخزينة خسائر المصرف المركزي والعكس صحيح.

والحكم الراجح اي ضمان الخزينة خسائر المصرف المركزي لا يخلو من الانتقادات على اساس انه:

(1) يثير لدى حكام المصارف المركزية شعور اطمئنان بانه يمكنهم دائماً الاعتماد على تحويل الإيرادات الضريبية لتعويض خساراتهم واخطائهم، ما يشجعهم على الانخراط في عمليات وبرامج وهندسات خطرة

(2) لا يتماهي مع الفصل المؤسسي بين المصرف المركزي وخزينة الدولة.

(3) قد يتطلب، في أوقات الأزمات، زيادة كبيرة في حجم الموارد، التي لن تتمكن المالية العامة من توفيرها، خصوصاً إذا كانت هي ايضاً تواجه الصعوبات (كما الحالة اللبنانية).

(4) ينقل مخاطر متأتية من اداء سلطة غير منتخبة من الشعب (عنينا المصرف المركزي) الى الخزينة، خصوصاً عندما لا يقترن الامر بموافقة او علم السلطة التنفيذية بتفاصيل سياسات المصرف، ولم يقم الاخير بتأدية حساب عن هذه السياسات امام المجلس النيابي (كما هي ايضاً الحالة اللبنانية).

الرد على الانتقادات السابقة، على جديتها، هو ان الدولة تبقى في جميع الظروف المسؤولة عن حسن انتظام العمل في جميع المؤسسات العامة العاملة لخدمة المجتمع.

جدير بالذكر ان الالتزام القانوني بضمان الخزينة للخسارة المسجلة في ميزانية المصرف المركزي يتطلب عملياً قانوناً خاصاً يحدد موارد الاموال العامة التي سيتم ضخها في ميزانية المصرف لاطفاء الخسارة، وهذا الامر دونه عراقيل مهمة من الكتل السياسية المعارضة اثناء مناقشات المجالس النيابية لاقرار هكذا نوع من القوانين.

الخطة هي نتيجة ونهاية لـ»سياسات غير تقليدية» خاطئة

في 26 تموز 2012، في احلك ايام ازمة الـ Euro التي اندلعت كارتداد لازمة تسنيد titratisation الرهونات العقارية الاميركية عام 2008، اعلن حاكم المصرف المركزي الاوروبي الـBCE آنذاك البروفسورMario Draghi ان المصرف سيفعل كل ما هو ضروري لانقاذ منطقة اليورو

La BCE est prête à faire tout ce qu’il faut pour préserver l’Euro

كلمة كانت كافية لعكس التوقعات السلبية التي كانت تخيم على جميع الاسواق المالية الاوروبية. وكانت الاعلان الرسمي لـ»سياسات غير تقليدية» مارسها الـ BCE لفترة من الوقت قام خلالها بعمليات شراء مكثفة للسندات العامة والخاصة من الاسواق ما ارهق ميزانيته بشكل كبير.

« السياسات غير التقليدية « التي مارسها الـ BCE اتصفت بأمرين:

(1) انها كانت ضمن اطار قانون المصرف المركزي الاوروبي

(2) لمدة محدودة من الوقت.

في لبنان «السياسات غير التقليدية» التي مارسها مصرف لبنان منذ تسعينات القرن الماضي كانت على العكس:

(1) غير متوافقة كلياً، بل احياناً متناقضة مع قانون النقد والتسليف

(2) مستدامة غير موَقتة تتبدل وتتنوع مع تنوع الظروف. لكنها بقيت ضمن عنوانين كبيرين

(أ) تأمين استقرار التسليف للقطاع العام وبالتحديد للخزينة لتمويل انفاقاتها على الكهرباء والدعم وغيره، من دون التقيد في ذلك باحكام قانون النقد والتسليف ذي الصلة على الاخص المادتين 91 و95 منه. فالاولى تنص ان الاقراض هو «استثنائي»، والذي حصل انه كان مستداماً. والثانية تنص على ان الاقراض يجري استناداً الى «عقد» يعرض على المجلس النيابي للموافقة على شروطه، والذي حصل هو ان الاقراض تم بدون توقيع اي عقد.

(ب) تأمين الدولارات الكافية لمصرف لبنان للتدخل في الاسواق للابقاء على ثبات سعر الصرف… وذلك ايا كان مصدر الدولارات ولو كانت حتى من ودائع المودعين في المصارف اللبنانية.

بدايات الانحرافات السابقة تظهرت بوضوح في مؤتمر باريس (2). ففيه تم التوافق على أمرين يتناقضان مع ما كان معتمداً من قبل حاكميات سابقة للمصرف.

فقد اقرت في هذا المؤتمر فكرة اطفاء جزء من دين الدولة على مصرف لبنان من الارباح المحققة من اعادة تقييم الذهب. وهو امر كان قد رفضه سابقاً الحاكم ادمون نعيم عندما طلب منه ذلك وزير المالية الرئيس كميل شمعون، وكانت حجة الدكتور نعيم ان ارباح اعادة التقييم هي ارباح دفترية غير محققة وقد تمت تسوية الامور بالأخذ برأي الدكتور نعيم.

كما اقر مؤتمر باريس (2 ) فكرة قيام المصارف بالاكتتاب لمرة واحدة بسندات مصدرة من الخزينة بالدولار او بالليرة حسب وضعية كل مصرف بفائدة 0%. لكن الاكتتاب التوافقي الظرفي تحول بعد انتهاء المدة المحددة له الى توظيف الزامي بالعملات الاجنبية للمصارف لدى مصرف لبنان وما زال سارياً لتاريخه، وقد فاجأ الحاكم الجميع مؤخراً برأي قانوني ورد في كتابه الى جمعية المصارف مفاده حق مصرف لبنان باعادة اموال التوظيف الالزامي المكون لديه بالعملات الاجنبية (والذي هو بحقيقته احتياطي الزامي) كما ايداعات المصارف وتوظيفاتها الاخرى المماثلة لديه، بالليرة اللبنانية عند الاقتضاء؟ وكان قد سبق له ان اعلن قبل ذلك موقفاً مماثلاً بجواز رد المصارف الودائع بالعملات الاجنبية الى اصحابها بالليرة اللبنانية من دون تحديد على اي سعر صرف!!!

ما تأسس في باريس (2) من توجيه المصارف لتوظيف قسم من دولارات مودعيها لدى مصرف لبنان بكامل رضاها بداية، ثم الزامياً بعد ذلك، كما تقديم مصرف لبنان الفوائد المجزية في مرحلة لاحقة للمصارف لجذبها لاجراء ايداعات واكتتابات بشهادات ايداع بالعملة الاجنبية مصدرة منه، توطئة لاستعمال ما يحتاج من متحصلاتها عند اللزوم لتمويل انفاقات الدولة وعمليات الدعم والتدخل في سوق القطع وغيره… يعاكس بالحقيقة توجهات سابقة اعتمدها كل من الدكتور نعيم الذي عرف عنه تشدده، ما امكن، في اعتماد الاصول القانونية في تمويل انفاقات الدولة وتركيزه على استعمال الاحتياطي الالزامي بالليرة اللبنانية وليس بالعملة الاجنبية في الدفاع عن سعر صرف الليرة، وايضاً الشيخ ميشال الخوري الذي لم يتوان عن اتخاذ موقف علني بتوقف مصرف لبنان عن التدخل بسوق القطع لنضوب موارد حساب «صندوق تثبيت القطع»، المنصوص عليه في المادة 75 من قانون النقد والتسليف، من دون التفكير للحظة واحدة بإتيان الانحراف الخطير وغير القانوني باستعمال ايداعات المصارف لديه بالعملات الاجنبية، للتدخل باموال المودعين من اجل الحفاظ على ثبات سعر الصرف كما فعل مصرف لبنان خلال السنوات الماضية، حسبما اوردت مقدمة ورقة حكومة الرئيس ميقاتي الآنف ذكرها اعلاه، من «ان جذب تدفقات رأس المال كان للحفاظ على سعر الصرف الثابت المُبالغ في قيمته و…»

تفاقم عجوزات الخزينة وميزات المدفوعات مع انطلاقة احتجاجات الربيع العربي، دفع مصرف لبنان الى اطلاق عمليات مالية مركبة لاجتذاب الاموال بالعملات الاجنبية من المصارف من خلال عمليات سماها بالهندسات المالية. واعتبرها نائب الحاكم الاستاذ رائد شرف الدين في ورقة مؤرخة 4 نيسان 2017 نشرها موقع مصرف لبنان على الانترنت تحت عنوان «هندسة مصرف لبنان المالية: رافعة مالية ونقدية واقتصادية» من قبيل «السياسات غيرالتقليدية المتعددة الأهداف والأبعاد. اذ تجمع ما بين صيانة الاستقرار المالي النقدي وتوفير الملاءة للدولة وتنشيط الطلب الداخلي والحركة الاقتصادية».

وركز الاستاذ شرف الدين في ورقته على «ان تعزيز موجودات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية يؤمن ميزانية قوية لعملياته وهو أمر ضروري للحفاظ على استقرار ثقة الداخل والخارج، ما ينعكس إيجاباً على استقرار سعر الصرف وسعر الفائدة».

وأضاف: «ان مصرف لبنان لم يتدخل في كيفية جذب المصارف للودائع بالدولار لتوظيفها في الهندسة المالية والاستفادة من أرباحها، تعليقاً على ما ذكره البعض من أن عدداً من المصارف قدّم بغية المشاركة في هذه الهندسة إغراءات للمودعين بعائدات مرتفعة وغير مسبوقة».

الكلام الاخير تعرض له قبل عدة ايام عضو جمعية المصارف السيد تنال الصباح في 30 ايار 2022 في برنامج 20/ 30 بحضور نائب رئيس الوزراء السيد سعادة الشامي. اذ ذكر حرفياً التالي: «ان مصرف لبنان قال للمصارف: يللي بيجيب 100 مليون دولار من زبائنه بعطيه فوراً 35 مليون دولار، وكل سنة 5 أو 6 ملايين دولار!!!!»

مجريات الامور اثبتت بما وصلت اليه راهناً فداحة سياسة الدفع نحو تركيز التمويل المصرفي في القطاع العام (الخزينة ومصرف لبنان). حيث فاق معدله في بعض الاوقات نسبة الـ 65%. وهو امر نبهت الى مخاطره تقارير صندوق النقد الدولي المعدة سنداً للمادة IV من اتفاقية تأسيسه، وانسحابات فروع المصارف الغربية من السوق اللبناني، علماً ان هذا التمركز يخالف عدداً من الاحكام القانونية والنظامية مثل عدم جواز اقراض المبذر والفاسد اي الدولة الا عند الضرورة وبقيود جد صارمة (وهو امر نبه الى خطورته باكراً رئيس جمعية المصارف السابق السيد فرانسوا باسيل)، وعدم جواز تجاوز الحدود القصوى لاقراض عميل واحد، وبهتان ضمانة الاقراض للقطاع العام، كما عدم الاخذ بالمعيار الدولي للتقارير المالية المعروف بـ IFRS 9 وغيره… واللافت ان مصرف لبنان كان هو المهندس للانحراف المحكي عنه، بدلاً من ان يكون هو المتصدي له من دون اي اعتراض من قبل لجنة الرقابة على المصارف التي لم تطالب بفرض الضوابط والمؤونات مقابله، وغياب تام للحكومة والمجلس النيابي عن هذا الانحراف بتمركز التمويل المصرفي.

وكانت اطلالات القيمين على الامور تثمن واقع ان الدين العام هو داخلي وليس اجنبياً. أمر اثبتت مجريات الامور عدم صوابية الاطمئنان اليه. فقد نشر مركز TRIANGLE قبل عدة ايام دراسة بعنوان «البيع العظيم: هكذا باع القطاع المصرفي اللبناني مستقبل البلاد للمصالح الخارجية». The Great Sell-Off

تناولت هذه الدراسة خلفيات وافرازات تجعل هذا القطاع يفرج عن سندات يوروبوندز يحوزها، قبل اندلاع الازمة، ولاحقاً، لمضاربين متخصصين بشراء سندات الدول المتعثرة، واكثر قدرة على ممارسة حق الفيتو في عمليات اعادة هيكلة دينها العام، وفرض الشروط على حكومات هذه الدول رضاء او من خلال التحكيم الدولي.

شطب التزامات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية تجاه المصارف

هذا الشطب:

• يخالف الدستور الذي ينص على حماية الاقتصاد الحر والملكية والمبادرة الفردية. ومن شبه المؤكد ان المجلس الدستوري سيعلن ابطال اي قانون يقر الشطب لمخالفته مقدمة الدستور في حال تم الاعتراض عليه امامه، والا فان الانتفاضات الشعبية ستكون الرادع الاخير على غرار ما حصل في ايسلندا، اليونان وغيرهما…

• يشجع على ارتكابات مستقبلية في ادارة وعمليات المصرف وايضاً على تمويه وطمس هذه الارتكابات عند حصولها، ووأد المسؤوليات المترتبة عليها طالما ان الامور ستنتهي بالنهاية بشطب الدليل على حصولها.

• يطيح بثقة الداخل والخارج كلياً بالقطاع المصرفي، المصارف ومصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف، على السواء.

• يفقد مصرف لبنان الاستقلالية النسبية المتبقية له ازاء السلطة التنفيذية. لان تدخل الاخيرة بدفع الخسائر المتأتية من انحرافات ادارته او حتى بشطبها سوف يستلحق بالتأكيد باستتباع خطير من قبل ادارة المصرف لرغبات وطلبات السلطة التنفيذية، ما يفقد المصرف بالنهاية استقلاليته ومبرر وجوده عملاً بالقول الفرنسي، من يدفع ثمن الكمان يختار الموسيقى

Qui paie le violon choisit la musique.

• يجافي القانون والمنطق، فالدولة بوصفها المدين الاخير بالتزامات مصرف لبنان سنداً للمادة 113 من قانون النقد والتسليف، بدلاً من تنفيذها للمتوجب عليها بمقتضى هذه المادة، تقوم بالتحلل من هذا الموجب في مشروع «استراتيجيّة النهوض بالقطاع المالي» بشطب التزامات مصرف لبنان تجاه المصارف.

حالة غير مألوفة في حل النزاعات مضمونها قيام المدين باعفاء نفسه من التزاماته اتجاه الدائن.

الوضع المالي للمصرف المركزي

لا احد يعارض فكرة ان مصداقية اي مصرف مركزي في العالم تتعزز بوجود وضعية مالية جيدة لا بوجود خسارات باهظة ومرهقة، من هنا يمكن فهم ان ادراج حكومة الرئيس ميقاتي فكرة شطب التزامات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية تجاه المصارف كان بهدف تنقية ميزانيته ما سيزيد، من حيث المبدأ، من قدرته على الوفاء بمهامه.

لكن الحقيقة التي يجب ان تقال ايضاً هي التالية:

1. ان الوضعية المالية الجيدة للمصرف المركزي ليست كافية لوحدها لتعزيز قدراته اذا كان هناك تشكيك بمصداقية وكفاءة السياسات المنتهجة منه.

2. ان المصرف المركزي يتمتع بخصائص ووفورات عديدة تضمن حسن قيامه بالمطلوب منه من دون التزامه باية قيود سيولة كتلك التي تواجهها مؤسسات القطاعين العام والخاص فهو (أ) لا يتوخى الربح و(ب) يحتكر إنشاء النقود المركزية بدون تكلفة تقريباً والعملاء ملزمون بقبولها. من هنا كانت فكرة حاكم مصرف لبنان رد احتياطات وتوظيفات المصارف بالعملات الاجنبية لديه بالليرة اللبنانية، وايضا رد المصارف للودائع بالعملات الاجنبية الى اصحابها بالليرة اللبنانية من دون تحديد على اساس اي سعر صرف، فكرة تضخمية بامتياز تتناقض مع موجب مصرف لبنان (1) بالحفاظ على النقد و(2)حماية مصالح وحقوق المودعين في المصارف من خلال الحفاظ على سلامة القطاع المصرفي.

3. انه ليس للقضاء صلاحية اعلان افلاس مصرف مركزي او تصفيته وحله، بالرغم من تعدي التزامات المصرف امواله الخاصة كما هو الامر بالنسبة للشركة والمؤسسة التجارية او المصرف التجاري عندما يصبحون غير قادرين على تحقيق الارباح للوفاء بالتزاماتهم، ما يستدعي تدخل القضاء للحكم عليهم بالافلاس واخضاعهم للتصفية. فهذا الامر غير وارد بالنسبة للمصرف المركزي، ذلك انه غير ملزم من حيث المبدأ، باحترام اي حد أدنى من متطلبات رأس المال مع استثناءات جد نادرة. فحتى عام 2011، على سبيل المثال، كان البنك المركزي البلجيكي، المنشأ كشركة مساهمة، خاضعاً لأحكام قانون الشركات التي تتطلب الحل التلقائي للمؤسسة في حالة خسارة 50% من رأس المال. في لبنان تنص المادة 17 من قانون النقد والتسليف على «ان مصرف لبنان لا يحل الا بموجب قانون يحدد عند الاقتضاء طرق تصفيته».

والممارسة العملية اظهرت ان مصرف لبنان يعمل في ظل «مناعة وحصانة» قانونية وعملانية لا يتمتع بها اي مصرف مركزي في العالم. فالحكومات تغاضت منذ الاساس على ممارسة صلاحياتها الدستورية المنصوص عليها في المادة 65 من الدستور التي تحفظ لها دوراً في التوجهات العامة للسياسة النقدية الواجب اتباعها، والمجالس النيابية لم تمارس ما يقوم به المشرعون في الدول الاخرى من مطالبة مصارفهم المركزية بتأدية الحساب امامهم عن اعمالهم، والسنة الماضية خلص اجتماع رئاسي عقد في القصر الجمهوري دعا اليه رئيس الجمهورية وحضره حاكم مصرف لبنان ورئيس مجلس الشورى للنظر في قرار المجلس ايقاف العمل موَقتاً، بقرار صدر عن المصرف موضوع التعميم رقم 158 ذي الصلة بسحوبات المودعين من حساباتهم المصرفية نتيجة الطعن امامه بهذا القرار. وقد تم الاتفاق في الاجتماع المذكور على تعليق نفاذ القرار القضائي في اشارة ضمنية للقضاء الاداري بعدم التعرض مرة اخرى لقرارات مصرف لبنان.

وفوق ذلك تأتي «استراتيجية النهوض» باقتراح عجيب غريب. فبدلاً من ان تشير الى آلية فضلى لتغطية خسارة مصرف لبنان من قبل الدولة عملاً بنص المادة 113 من قانون النقد والتسليف او غيرها، عمدت الى اسهل الحلول واقلها تكلفة عليها للتحلل من التزامها وهو شطب التزامات مصرف لبنان بالعملات الاجنبية تجاه المصارف لترسم واقعاً كاريكاتورياً ليس له مثيل في العالم: صلاحيات مطلقة لمصرف مركزي مدعمة بامكانية شطب التزاماته عند الاقتضاء في حال تضخمها لتمويه المسؤوليات والمساءلات.

(*) استاذ محاضر في قانوني النقد والمصارف المركزية

المصرف المركزي المنهار

المخاطر المالية التي تعرضت لها مصارف مركزية عديدة بما فيها مصارف مركزية كبرى طوال القرن الماضي دفعت عدداً من المفكرين الى طرح اسئلة من نوع:

هل يمكن للمصارف المركزية أن تنهار ؟

? Can central banks go broke

وصاحب هذا المقال هو البروفسور Willem Buiter استاذ الاقتصاد بجامعتي Cambridge و Yale ونشره عام 2008 اثناء الموجة الأولى من التدخلات الاستثنائية للمصارف المركزية.

لاحقاً على اثر الخسائر التي أعلنها المصرف المركزي السويسري في النصف الأول من عام 2011 نشر رئيس مجلس حاكميته البروفسور Thomas Jordan مقالاً طرح فيه سؤالاً مشابهاً هو التالي:

هل البنك الوطني السويسري بحاجة لاموال خاصة ؟

?La Banque nationale suisse a-t-elle besoin de fonds propres

فحوى الجواب في المقالين السابقين وغيرهما هو «ان المصرف المركزي لا يتعثر ولا يفلس، بل هي السياسة المنتهجة هي التي تتعثر وتفلس».

وقد أيد هذا الامر الباحثان Stella and Lönnberg في ورقة عمل نشرها الـ IMF تحت عنوان

Issues in Central Bank Finance and Independence

على ضوء ما اورده الكاتبان الاخيران يمكن فهم عدم صوابية توجه مصرف لبنان برد توظيفات واحتياطات وايداعات المصارف لديه بالعملات الاجنبية، بليرة معثرة اي الليرة اللبنانية، وذات الشيء بالنسبة لرد المصارف، بذات الليرة المعثرة، للودائع التي تلقتها من اصحابها بالعملات الاجنبية. وكنا قد تناولنا في وقت السابق عدم قانونية التوجه المذكور في رد الودائع بالعملات الاجنبية في مقال نشرته «نداء الوطن» تحت عنوان « «الليلرة» و»الهيركات» لتذويب الودائع واطفاء الخسائر» في الملحق الاقتصادي لعددها الصادر في 21 اذار 2022

استمرار مصرف مركزي بالعمل برأسمال سالب

عدد من الدراسات الحديثة خلصت الى ان خسارة مصرف مركزي لرأسماله وهشاشة وضعه المالي لم يكونا، بالضرورة وفي حد ذاتهما، عقبة أمام أداء سياسات جيدة لاحقة:

فالتشيلي استمر مصرفها المركزي بالعمل محققاً الاستقرار في الأسعار بحقوق ملكية سلبية لاكثر من عقدين. ذات الامر حصل مع إسرائيل والمكسيك وكوريا الجنوبية لسنوات معدودة.

بالمقابل عانى المصرف المركزي في البيرو من حالة عجز لعدة سنوات بسبب دعمه المالية العامة، وقد تم تمويل الخسائر بشكل رئيسي من خلال خلق النقود وادى ذلك الى انفجار التضخم في عام1987 إلى 7000%

في الولايات المتحدة الاميركية اعتمد مجلس الاحتياطي الفيدرالي الـ FED سياسات محاسبية تستبعد إمكانية تسجيل حقوق ملكية محاسبية سلبية، حتى في حالة حدوث خسائر غير عادية وازنة.

ايضا في انكلترا تم خلق كيان منفصل عن المصرف المركزي BEAPFF للقيام بعمليات دعم خاصة استثنائية خارج اطار عمل المصرف المعتاد ويتلقى التعويضات من الخزينة.

الخلاصة

صفوة القول ان شطب التزامات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية تجاه المصارف الوارد في ورقة الحكومة هو امر مخالف للدستور وللمبادئ القانونية المستقرة في الايفاء بالالتزامات، على الأخص المحررة بالعملات الاجنبية، ولم يعتمد من قبل اي من البلدان التي سجلت ميزانيات مصارفها المركزية خسارات جسيمة، اذ استمر عدد من هذه المصارف بالعمل بسياسات جديدة تمكن بعض منها في تحقيق الاستقرار في الاسعار خلال مرحلة التعافي من الخسارات.

ان الاخذ بفكرة شطب الالتزامات ستكون نتيجته حتما معاكسة لعنوان ورقة الحكومة والتي هي «النهـوض بالقطـاع المـالي» اذ ستكون المحصلة ترسيخ فقـدان الثقة بالقطـاع المصرفي ككل:

مصارف ومصرف مركزي ولجنة رقابة على المصارف وايضا تذويب اضافي للودائع.

منطلق الحل البديل والانجع للمعالجة هو تماماً العكس، اي تثبيت ديون الدولة ومصرف لبنان للانطلاق من بعده في تحديد المسؤوليات والمساءلات واسس استعادة المودعين لحقوقهم، لان التزاماتهما في الازمة، اي الدولة ومصرف لبنان، هي التزامات «اصيلة» وليست طارئة تقررت على سبيل التبرع لضمان خسائر حصلت في القطاع المالي الخاص ولحقت بأفراد ومؤسسات من عمليات اجروها مع مصارف ومؤسسات مالية متعثرة، كما حصل في الازمات الاوروبية، فكان دعم وانقاذ افراد ومؤسسات القطاع الخاص من الاموال العامة.

في لبنان الامور مغايرة، اذ ان الازمة حصلت بسبب تخلف الدولة ومصرف لبنان عن اداء التزامات «ثابتة» في ذمتيهما ومترتبة عليهما «مباشرة» وبصورة «اصيلة»، نتيجة عمليات مالية اجراها الاثنان بصورة مباشرة او غير مباشرة من ادخارات المودعين وبالتالي لا يجوز لهما، اي الدولة ومصرف لبنان، التحلل من التزاماتهما تجاه المودعين تحت اي شعار، لان الامر يخالف كما سبق ذكره الدستور والمبادئ القانونية المستقرة في الايفاء بالالتزامات على الاخص المحررة بالعملات الاجنبية.

ايضاً يقتضي ان يستبعد كلياً التفكير بفرض الليرة اللبنانية، والتي هي في الوقت الراهن عملة «السياسات غير التقليدية» الخاطئة بدليل فقدانها لـحوالى 94% من قيمتها، في تصفية حقوق المودعين، من خلال تصفية التزامات الدولة ومصرف لبنان لالتزاماتهما القائمة بالعملات الاجنبية، بالليرة اللبنانية، على اسعار صرف مخالفة للاسعار الواقعية !

مصدرنداء الوطن - توفيق شمبور
المادة السابقةأشهر قليلة حاسمة… الصندوق أو المجهول؟!
المقالة القادمةلبنان يأكل من صناعاته وإنتاجه أكثر من ذي قبل