تداولت وسائل الإعلام في الأيام الأخيرة نص رسالة موجهة بتاريخ 15 شباط 2022 من نواب الحاكم الأربعة الى وزير المالية، يحذرون فيه الحكومة من خطورة استخدام احتياطيات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية في قضايا الدعم، ما يستنفد جزءاً كبيراً من الأموال التي تُشكل خطّ الدفاع الأخير للحفاظ على الأمن الاجتماعي والاقتصادي والمالي والنقدي. مع التذكير بأن الأمر كان موضوع كتب عدة أرسلت سابقاً للحكومة وبقيت من دون إجابة، فاستمر الصرف من قبل مصرف لبنان من التوظيفات الالزامية للمصارف لديه، وهي أموال يجب أن تعود للمودعين، وليس لدعم السلع وتأمين حاجات الدولة من العملات الأجنبية.
وقد أشار نواب الحاكم الى ان مديريات المصرف المركزي المعنية بمستوى التوظيفات الإلزامية قدمت للحاكم دراسات تتيح متابعة تلبية طلبات السياسات الحكومية، وقد تم رفضها من قبلهم بالشكل وبالمضمون، لعدم الموافقة على مبادئ تحليلها. وقاموا شخصياً بإجراء دراسة خاصة مقابلة أظهرت أن الأرصدة المتوفّرة بالعملات الأجنبية تدنّت عن مستوى التوظيفات الإلزامية. وبالرغم من اختلاف الرأي استمر الحاكم بالموافقة على تلبية طلبات الدعم مضطراً ولا يزال.
وقد انهى نواب الحاكم كتابهم بالاشارة الى ان مهامهم كما هي محددة في المادتين 18 و33 من قانون النقد والتسليف لا تمنحهم أي صلاحيات أو وسائل لفرض وجهة نظرهم، أو إلزام الحاكم باتّباع نظرتهم المحاسبية لمستوى التوظيفات الإلزامية، لذا فهم يرفعون الموضوع اصولاً إلى مجلس الوزراء لاعلامه بأن أية طلبات موجّهة إلى مصرف لبنان للدفع بالعملات الأجنبية، ولأي سبب كان، ومهما كان مبرّراً، وتحت أي سند قانوني، تتم حسب دراستهم، من التوظيفات الإلزامية للمصارف لدى مصرف لبنان ومن حقوق السحب الخاصة، الأمر الذي يخالف القانون وقرارات المجلس المركزي المانعة لذلك.
لماذا وافقوا على قطع الحساب؟
المستغرب ان موقف نواب الحاكم الآنف الذكر لم يستتبع بقرار منهم يعكس التزامهم به بالتحفظ او بالاعتراض على قطع الحساب لسنتين متتاليتين بعد تعيينهم، وهو أمر يدخل ضمن صلاحياتهم عملاً بالمادة 33-11 من قانون النقد والتسليف. فبقي اعلانهم بعدم قانونية الانفاق من التوظيفات الالزامية اعلاناً انشائياً، إذ إن الموافقة على قطع الحساب يعتبر قانوناً موافقة ضمنية على العمليات المخالفة للقانون لا بل ابراء للذمة عنها.
حسنا فعلوا برفع الصوت
بالمقابل حسناً فعل نواب الحاكم بإعلاء الصوت وربط استمرارهم بمهامهم بعد انتهاء ولاية الحاكم باقرار المجلس النيابي لقانون يسمح لهم بالانفاق لأشهر معدودة من التوظيفات الالزامية، على ان يقترن الامر بضمانات مقبولة حتى لا يكون هناك طعن بعدم دستورية القانون.
مثال من أوروبا
ما كشفه نواب الحاكم من اختلاف مع الأخير ليس بالامر الغريب، فقد وقع مثيل له مع زملاء لهم في مصارف مركزية أخرى، لكنهم اختطّوا سبلاً اكثر اقداماً مما فعلوه. على سبيل المثال لا الحصر موقف حاكم البنوندسبنك الالماني السابق البروفسور Jens Weidmann الذي لم يكتف بالاعلان صراحة وعلناً معارضته، بصفته عضواً في مجلس حاكمية المصرف المركزي الاوروبي لبرنامج الشراء العام للسندات والمعروف بـ OMT، من ضمن سياسة التيسير الكمي التي تمّ اعتمادها بتوجيه من قبل الحاكم Draghi، بل ذهب أبعد من ذلك إذ انضم الى الذين خاصموا المصرف المركزي الاوروبي امام المحكمة الدستورية الالمانية، مقدماً دراسة من 29 صفحة الى الاخيرة تثبت مخاطر سياسة التيسير المعترض عليها نشرتها آنذاك بالكامل جريدة handelsblatt.
السريّة المصرفيّة لا تسري
أوساط نواب الحاكم علقت على المنحى الذي اختطّوه بأن السريّة المصرفيّة تمنعهم من الإدلاء علناً بموقفهم المحكى عنه. كلام لا يستقيم كلياً، فالمصرف المركزي الاوروبي يعتمد ايضاً السرية في المادة 38 من قانونه، ولم يفسر أحد أن اعلان عضو في مجلس الحاكمية لرأي علني هو من قبيل خرق لهذه السرية، فضلاً عن ذلك يذكر السيد جوزيف اوغورليان الذي ترأس لجنة صياغة قانون النقد والتسليف في كتابه المعنون
Une Monnaie Un Etat
Histoire de La Monnaie Libanaise
بأن اعتماد المادة 151 الخاصة بالسرية المصرفية جاء لتطمين مودعي المصارف بأن القانون الجديد الذي يلحظ انشاء مديرية للرقابة على المصارف من ضمن هيكلية مصرف لبنان لن يمس حقوقهم بهذه السرية، وكان من المفترض تعديل صياغة هذه المادة بعد فصل مديرية الرقابة عن مصرف لبنان عام 1967.
من جهة أخرى يرى البروفسور Leo Schurmann المستشار القانوني في المصرف الوطني السويسري ونائب رئيس في ادارته العامة في شرحه للمادة 58 الخاصة بالسرية المصرفية من قانون المصرف بكتابه المعنون
La loi sur la banque nationale (suisse) et ses dispositions d›éxécution
ان السرية التي تغلف نشاط المصرف المركزي هي سرية مهنية من نوع سرية الوظيفة secret de fonction، ما يعني تطبيق الاحكام الخاصة التي ترعى العمل في المرفق العام على القائمين بادارة المصرف المركزي. ومن نتائج الامر ضرورة ابلاغ الاخيرين عن كل انحراف للنظام والقانون يعرض امامهم لا التكتم عليه.
علماً ان قانون شفافية المصرف المركزي الصادر عن صندوق النقد الدولي يلزم القيّمين على المصرف المركزي بموجبات افصاح متعددة ومتنوعة لصالح الجمهور لا يحدها الا «حاجة شرعية للسرية». وهذا ما هو غير متوافر بالطبع في الامر المطروح من قبل نواب حاكم مصرف لبنان لتعلقه باختلاف في تفسير النصوص القانونية واحكامها.
ماذا حصل سابقاً؟
إختلاف نواب الحاكم مع الحاكم سلامة ليس هو الأول ولن يكون الأخير في تاريخ مصرف لبنان، فالامر حصل مع نواب حاكم آخرين اكثرهم وضوحاً كان بين نواب الحاكم ادمون نعيم والاخير وحصل بطريقة تقنية لافتة.
ففي كتاب استقالاتهم المرفوع الى رئيس الحكومة آنذاك السيد رشيد كرامي أوضحوا ان المدة التي امضوها في العمل في المصرف (حوالى السنة)، ولّدت لديهم قناعة راسخة بأن الصلاحيات الممنوحة لهم، افرادياً كنواب للحاكم، او جماعياً من خلال المجلس المركزي، سواء بموجب قانون النقد والتسليف او بموجب العرف المستقر بتطبيق احكامه في شؤون ادارة المصرف، هي بدرجة من البهتان جعلتهم عاجزين عن ايصال ما يقدرونه مفيداً واحياناً ضرورياً في مجال السياسة النقدية والتسليفية الى حيز التنفيذ، في ما لو تعارضت آراؤهم مع تلك التي يراها الحاكم.
نوعان لمهمّات «النواب»
فالمهام التي يقوم بها نواب الحاكم هي على نوعين: (الاولى) يقررها الحاكم شخصياً سنداً للمادة 18 من قانون النقد والتسليف، وتأخذ صورة «اشراف» كل نائب حاكم على مديرية او اكثر من مديريات المصرف، على ان تبقى للحاكم الكلمة الفصل. و(الثانية) مستمدة من الصلاحيات الممنوحة للمجلس المركزي في القوانين المصرفية لا سيما قانون النقد والتسليف، وعلى الاخص المادة 33 منه التي ترسم الاطار العام لهذه الصلاحيات والتي تظهر انها تتأرجح بين «التذاكر» و»التقرير» في شؤون المصرف العامة ووظائفه، على ان يختص الحاكم وحده سنداً للمادة 26 من ذات القانون بصلاحية وضع القرار المتخذ من المجلس المركزي موضع التنفيذ.
من جهة اخرى، فان العرف في ادارة شؤون المصرف كان يميل الى ادراج اية صلاحية جديدة تمنح الى مصرف لبنان في عداد صلاحيات الحاكم العامة المنصوص عنها في المادة 26 الآنفة الذكر. وهذا الواقع، وان كان من شأنه ان ينحيهم من حيث المبدأ عن قدر من المساءلة الوظيفية، الا انه لا يعفيهم البتة من المسؤولية المعنوية والوطنية التي تتطلب منهم السعي الى تركيز عملية اتخاذ القرارات المتعلقة بسياسة مصرف لبنان النقدية والتسليفية بيد المجلس المركزي بشكل واضح. لذلك فهم يضعون استقالتهم بين يدي رئيس الحكومة آملين بأن تكون المدخل لأي تفكير رسمي لاتخاذ ما يمكن من اجراءات لتصحيح الاوضاع المشكو منها. باتجاه مقابل، تمحورت اعتراضاتهم التي ابلغوها للحاكم ادمون نعيم على التفسير الذي يعطيه الاخير لقانون النقد والتسليف على نحو يضعف من دور المجلس المركزي، واقترحوا كحل للتعارض التزام الحاكم بعرض جميع طلبات التسليف المقدمة من القطاعين العام والخاص لاقرارها من قبل المجلس المركزي. وعلى ان يكون للاخير الحق في الاطلاع والاشراف على كل عملية انفاق. كما طالبوا بضرورة تقيد الحاكم بتنفيذ السياسة النقدية التي يعود امر تحديدها بجميع تفصيلاتها الى المجلس المركزي، وبشكل خاص مبدأ وحجم شراء ومبيع سندات الخزينة في الاسواق المالية، ومبدأ وحجم التدخل في اسواق القطع.
ردّ الحاكم نعيم
ردّ الحاكم نعيم على اقتراحات نوابه تضمّن التالي:
1. لفت النظر الى ان المادة 26 من قانون النقد والتسليف تعتبر حاكم المصرف مكلفاً وحده بتطبيق قرارات المجلس المركزي بمعنى انه يعود للمجلس التداول والتقرير وللحاكم التنفيذ.
2. إلتزامه بالاستمرار بعرض كل طلبات التسليف المقدمة من القطاعين العام والخاص على المجلس المركزي.
3. التأكيد على ان السياسة النقدية للمصرف يحددها المجلس المركزي، ما يعني انه يعود للاخير صلاحية التقرير ببيع وشراء سندات الخزينة في السوق الثانوية وتحديد اسعار البيع والشراء والحسم، علماً بانه ممنوع على المصرف الاكتتاب مباشرة باصدارات الخزينة (وهذا امر لم يتم التقيد به خلال ولايات رياض سلامة). كما يعود للمجلس صلاحية الموافقة على التدخل في السوق النقدية لتثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية، بمعنى انه اذا قرر المجلس رفض التدخل فلا يحق للحاكم ان يخالف هذا القرار. وعلى هذا فهو يدعوهم الى الاجتماع اليومي صباحاً قبل الافتتاح الرسمي لسوق القطع للتشاور من اجل تحديد موقف المصرف ان لجهة مبدأ التدخل او لجهة حجم التدخل.
4. إلتزامه بالطلب من المديريات المعنية في المصرف بتسديد المبالغ المستحقة ضمن حدود الارصدة المتوافرة للدولة والاشخاص العموميين الآخرين، وفي حال حصول اي اشكال يرفع الامر الى المجلس المركزي للبت فيه.
مردّ الإختلافات بين الحاكم ونوابه… هو قانون النقد والتسليف نفسه
مردّ الاختلاف بين الحاكم ونوابه في مصرف لبنان هو ان قانون النقد والتسليف وضع اصلاً للتعامل وادارة سعر صرف ثابت تحكمه اتفاقية بروتون وودز التي تم بمقتضاها ربط الذهب بالدولار، مع تعهد من قبل الولايات المتحدة برد قيمة اي دولارات تعرض عليها من اي دولة مشاركة ذهبا على اساس سعر 35 دولاراً للاونصة الواحدة، وكانت النصوص كافية للتعامل وادارة مصرف لبنان مقتضيات سعر الصرف الثابت بسلاسة.
عام 1971 تخلّت الولايات المتحدة من جانب واحد عن التزامها ودخل العالم من تاريخه بما عرف بنظام سعر صرف عائم ومتعدد الصور باتت معه ادارة المصارف المركزية اكثر تعقيداً، ما حدا بالمشرعين الى اجراء تعديلات متعددة على قوانين مصارفهم المركزية. وتنوعت هذه التعديلات بعد حصول ازمات مالية عالمية عدة في القارة الاميركية واوروبا وآسيا، ولم يواكب مصرف لبنان التطورات، وباتت مواد قانون النقد والتسليف تستخدم وتفسر لاحوال ولظروف وقضايا لم تكن بحسبان واضعيها.
واحد من الادلة الراهنة على ما سبق قوله منصة صيرفة، فقرار انشائها الذي صدر عن المجلس المركزي عام 2021 بأغلبية اعضائه ان لم يكن بالاجماع، يستند الى المادة 83 – ب التي تنص على ان شراء وبيع مصرف لبنان للعملات الاجنبية مع الجمهور يكون «مباشراً» اي لدى صناديقه، وكان هذا الامر معتمداً ايام بنك سوريا ولبنان، لكن الحاصل هو ان الامر يتم من خلال المصارف ما يشكل مخالفة واضحة للنص القانوني، ما يعني ان سعر صيرفة هو بهذا التوصيف سعر غير قانوني كما كان قبله سعر 1500 ل.ل للدولار سعراً زائفاً وغير دستوري، وهناك امثلة اخرى على هكذا تعارض.
لقد بقي لبنان بعيداً بسبب ازماته وصراعات ابنائه المتلاحقة عن اعتماد التوجهات المعاصرة في ادارة المصارف المركزية والتي تفرض تركيز المصرف بصورة اساسية على استقرار النقد، وترك الامور المصرفية تنظيماً ورقابة لهيئة مستقلة كما فعلت سويسرا، وهو وضع لو تمّ اعتماده باكراً لكان لبنان تفادى قطعاً الازمة الكارثة التي يمر فيها الآن، لان الهيئة المصرفية المقترحة ما كانت لتسمح ابداً بتمركز اكثر من 75% من الودائع بالعملات الاجنبية لدى مصرف لبنان وتوجيه الاخير لاحقاً القسم اليسير من هذه الودائع لتمويل القطاع الخاص من افراد واشخاص ومؤسسات يحددهم مصرف لبنان وبشروطه وقيوده.
ويكفي التدقيق في الهيكل التنظيمي لمصرف لبنان المنشور على صفحته على شبكة الانترنت لتلمس مدى الانحراف القائم بترؤس الحاكم الهيئة التقريرية أي المجلس المركزي وتوليه ايضاً المهمة التنفيذية لقرارات هذا المجلس وغيرها من القرارات المتعلقة بتسيير الاعمال كما بترؤسه الهيئات اللصيقة قانوناً بالمصرف، وباشرافه المباشر على عدد من مديرياته يفوق بحوالى الضعف احياناً عدد المديريات التي يشرف عليها نائب حاكم. هذا من دون ذكر التفسيرات المشوهة للنصوص لصالح منح صلاحيات اوسع للحاكم واحدة، منها على سبيل المثال لا الحصر تفسير منحرف للفقرة 6 من المادة 33 من قانون النقد والتسليف يذكر ان المجلس المركزي مهمته محصورة بالتذاكر délibération اما التقرير فللحاكم. وقد دفع هذا الامر سلامة الى الاعتراف في مقابلته الاخيرة على شاشة الـ LBC بانه متهم بادارة المصرف بشكل ديكتاتوري لكن هذا بنظره غير صحيح.
لقد بات أكثر من ملح اجراء عملية اعادة هيكلة جذرية في مصرف لبنان، وتعديل قانونه على نحو تقسم فيها السلطات بشكل واضح بين تقريرية وتنفيذية مع هيئات مستقلة للرقابة الداخلية تتكامل تقاريرها مع تقارير هيئات الرقابة الخارجية، على ان تنقسم الرقابة الخارجية بين مفوضي مراقبة يعينون من قبل الحكومة ويرفق تقريرهم مع التقرير السنوي الذي يعده المصرف الى المجلس النيابي لدراستهما معاً من قبل اللجنة او اللجان المعنية لديه، قبل الموافقة على نشرهما اصولاً في الجريدة الرسمية، وهو ما يفعله عدد من الدول المتقدمة. ايضاً يجب ان تكون هناك هيئة مستقلة لتقييم السياسات المعتمدة من قبل مصرف لبنان ورقابة حسن تنفيذها. وهذا ما يفعله ديوان المحاسبة في كل من فرنسا والاتحاد الاوروبي، وتتولاه الجمعيات العامة للمساهمين في المصارف المركزية التي تمّ تحويلها الى شركات مساهمة عامة كسويسرا وبلجيكا.