إن أكثر ما يُشغل بال المواطن اللبناني، لجهة القدرة الاستهلاكية لديه، هو أسعار صفيحة البنزين التي تتغيّر بين أسبوع وآخر صعودا ونزولا، مع الإبقاء على قيمتها مرتفعة من دون أي مبرر.
فالمواطن الذي يرزح تحت وطأة التعثر الإقتصادي، وسط ركود سوق العمل بات يحسب حساب الليرة الواحدة في مدخوله ومصروفه. ومن المعلوم أن المحروقات هي أكثر السلع استهلاكا من قبل المواطنين سواء في النقل أو حتى في الصناعات وقطاع الزراعة. لذا تشكّل هذه السلعة هاجسا لديهم كونها ذات قيمة مرتفعة ومتقلّبة غير ثابتة، يدفعها اللبناني بطريقة ظالمة، حيث أن قيمة الضريبة المستوفاة من كل صفيحة تفوق القيمة الأصلية لها.
وهنا تكمن الجريمة التي برزت منذ عام 2013، والتي تعرف زواريبها الدولة، فيما تغيب عن أغلب المواطنين. إذ إن المشتقّات النفطيّة المصدّرة الى لبنان، استفادت من أحكام اتفاقيّة الـEuro1، التي وُقّع عليها في عام 2002، وتم الإعفاء كلياً من الرسم الجمركيّ على السلع المستوردة من الاتحاد الأوروبي اعتباراً من عام 2013، فيما لا يزال المواطن اللبناني يدفع ضريبة غير مباشرة (الرسم الجمركي) ضمن تسعيرة الصفيحة.
هذا الواقع المستمّر حتى اليوم، سمح للشركات المُستوردة للمحروقات بتحقيق أرباح إضافيّة غير مشروعة، إضافة إلى مبالغ أخرى غير محدّدة حقّقتها بين عامي 2002 و2013 بنتيجة الإعفاء التدريجي المنصوص عليه بموجب الاتفاقيّة نفسها. وعلى الرغم من أن المجلس الأعلى للجمارك يبحث بهذا الملف منذ عام 2014، وأحاله بحسب ما أفادت وسائل الإعلام حينها، الى مصلحة الدراسات فيه، التي أصدرت تقريرها واعتبرته يندرج ضمن خانة “الإثراء غير المشروع”. وتحوّل الملف الى عهدة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الذي أثار الموضوع في إحدى جلسات الحكومة عام 2017، بعدما وصلته تقارير تفيد بان الأرباح الإضافية للشركات المستوردة للنفط تخطّت الـ5% من تعرفة الرسم الجمركي المُعفاة منه أساساً بموجب اتفاقيّة الشراكة مع الاتحاد الأوروبي ،حيث بلغت 73 ليرة عن كلّ صفيحة بنزين عيار 95 أوكتان، و134 ليرة عن كل صفيحة بنزين عيار 98 أوكتان. الا أن ما من شيء تغير، فبقي جدول تركيب الأسعار من دون تعديل، وبقيت الشركات تستوفي قيمة الرسم الجمركي وتحوّله الى أرباحها.
بالأرقام.. تخضع مادة البنزين 98 أوكتان لرسم جمركي بقيمة 6500 ليرة لبنانيّة لكل كيلوليتر، ورسم استهلاك داخلي بقيمة 217 ألف ليرة لبنانيّة لكل كيلوليتر، و10% ضريبة على القيمة المُضافة. أمّا مادة البنزين 95 أوكتان فتخضع لرسم جمركي بقيمة 3500 ليرة لبنانيّة لكل كيلوليتر، ورسم استهلاك داخلي بقيمة 223 ألف ليرة لكل كيلوليتر، و10% ضريبة على القيمة المُضافة.
وبذلك تكون مداخيل الشركات المستورِدة للفيول، قد تجاوزت الحصّة المقرّرة لها في جدول تركيب الأسعار، عبر استيفائها رسماً جمركياً، وهو عبارة عن ضريبة غير مباشرة تترتّب على المستهلك، وغير مدفوع من قبلها، أدخلته في سعر المبيع. فيتحمل المُستهلك بذلك رسماً لم تدفعه الجهة المستوردة بدل استفادته من الاتفاقيّات الدوليّة، وتحويله إلى ربح إضافي لها، رغم علمها المُسبق بمقدار حصّتها المحدّدة في جدول تركيب الأسعار.
هذا الخطأ الفادح يتحمل مسؤوليته بالدرجة الاولى جزء من الدولة وأجهزتها، فما تقوم به تلك الشركات هو بعلم الوزارات المعنيّة، وليس فيه مخالفة للقوانين الصادرة والمرعيّة الإجراء، كون الرسم لا يزال موجوداً على الجداول ولم يتم إصدار مرسوم من مجلس الوزراء يقضي بإلغاء الرسم الجمركي عملا بالإتفاقية الدولية.
وبالتالي، فإن هذه المسؤوليّة تتقاسمها كل من وزارة الطاقة والمياه التي يصدر عنها جدول تركيب أسعار المشتقات النفطية، والتي لم تتخذ حتى اليوم أي إجراء للتصحيح، ووزارة المالية التي تتحمل مسؤولية عدم إصدار أوامر التحصيل من الشركات ومسؤولية جباية الضرائب والرسوم، سنداً إلى المادّة 45 من قانون المحاسبة العموميّة التي ترعى كيفيّة تصفية وتحصيل ديون الدولة ووارداتها من ضرائب ورسوم وغيرها، ومن ثم مجلس الوزراء، كون صلاحيّة التشريع في الحقل الجمركي مُناطة به.
ما تقوم به هذه الشركات هو أشبه بفرض خوّة على المُستهلك بالتواطؤ مع الدولة باداراتها المعنية واجهزتها الرقابية، وهو ما ينطبق عليه جرم استيفاء ضرائب من دون وجه حقّ والذي أدّى بدوره الى الإثراء غير المشروع، الامر الذي يستوجب تحرّك النيابة العامة.
على الدولة ان تتنبّه لهذا الامر، خلال إعدادها لمشروع الموازنة، حيث ان تحصيل المال العام “المحتجز” لدى تلك الشركات من شأنه ان يُدخل مبلغا لا يستهان به الى خزينة الدولة، إضافة الى حماية المستهلك من عملية “النهب” الموصوفة هذه، وبالتالي سهولة تثبيت سعر صفيحة البنزين وبالحد الأدنى.