سوء الحوكمة قوّض التغيير الهيكلي للإقتصاد اللبناني…

ظهرت عبارة «الحكم الرشيد» في أواخر ثمانينات القرن الماضي في تقارير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. ويفرض هذا المُصطلح حتمية الإستقرار والكفاءة (التي تقيس الحوكمة الإقتصادية) كما وقدرة الحكومة على المحاسبة، كما أن منظمة التعاون الإقتصادي والتنمية(OECD) تعتبر الحكم الرشيد على أنه إستخدام السلطة السياسية وممارسة الرقابة فيما يتعلق بإدارة موارد البلد بهدف التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وبالتالي أصبح الحكم الرشيد المعيار المُطبّق على الدولة التي تطلب مساعدة مالية من صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي.

غياب الحكم الرشيد

لبنان الذي يحتاج ويُطالب بمساعدة مالية دولية يواجه بحزمة شروط من قبل صندوق النقد الدولي والتي تحوي (أي حزمة الشروط) هدف الوصول إلى الحكم الرشيد للمضي قدمًا في تطوّر وإزدهار الإقتصادات، التي لا طالما إفتقد لبنان إليه خصوصًا من ناحية الإدارة السليمة لموارد البلد وغياب التنمية والمحاسبة.

والحق يقال، الغياب هو في التطبيق لا في القوانين الناظمة، ولعل هذا هو أسوأ ما في الأمر إذ أدى التفلت وإهمال الأسس العالمية المتبعة للتغيير الهيكلي في الإقتصاد، والذي أظهر خلّلا واضحًا في الأزمة الأخيرة، وبالتالي، فإنه لا مجال إلى تحول الإقتصاد الريعي إلى إقتصاد مُنتج إلا من خلال الحكم الرشيد. إن غياب روح المسؤولية وإرادة التطوير والتقدم والازدهار في منهج أهل السلطة عامة قوّض كل مقومات البلد وسمح للفساد بالتفشّي إلى مستويات صحّت معها النظرية الإقتصادية التي تنص على أن كل بلد يحوي على موارد غير مُستخدمة في الإقتصاد، هو بلد مُتخلّف إقتصاديًا وإن البلد الذي يحوي على فقراء هو بلد مُتخلّف إجتماعيًا.

ومن ثم كيف يُمكن للبنان أن يُطبق «الحكم الرشيد» وحجم الفساد في المُجتمع بلغ مُستويات لا توجد إلا في بعض الدوّل الفاشلة في العالم؟ هذا الفساد الذي عبث بكلّ مُقدّرات الدولة اللبنانية وضرب الإقتصاد وزاد الفقر وأدّى إلى إنهيار إقتصادي وإجتماعي في ظلّ غياب المُحاسبة وعجز القوى السياسية على تخطّي الخلافات وإيجاد حلول جذرية تمنع سقوط الشعب اللبناني في المحظور.

إن تشكيل حكومة جديدة بالمعايير المفروضة دوّليًا (بغض النظر عن البعد السياسي) يهدف إلى السعي إلى «الحكم الرشيد» وإستعادة ثقة اللبنانيين وثقة المُجتمع الدولي بلبنان وبإقتصاده ومؤسساته. وبدون «الحكم الرشيد»، لا يُمكن إستعادة الثقة، وبالتالي، لا يُمكن وقف الإنهيار الذي نعيشه. هذا الإنهيار يتجّلى بالفقر المُتزايد والذي تُشير أرقام البنك الدولي إلى أن دينامية الفقر تتحرّك بشكل مُخيف مع زيادة الفقر المُدقع من 1.8% في العام 2019 إلى أكثر من 23% في العام 2020، كما أن أسفل الطبقة المُتوسطة تراجع من 6.45% إلى 35% مُنذرًا بتحوّل جذري وسريع لهيكلة المُجتمع اللبناني. وفي حال تمّ رفع الدعم عن السلع والمواد الغذائية والأساسية فإن هذه الدينامية تُنذر بكارثة إجتماعية ستُدرّس في الجامعات كأول ظاهرة تحول إجتماعي في بلد لا حرب فيه.

من المُسلّم به اليوم أن لا عبور نحو التنمية الإقتصادية والإجتماعية إلا من خلال اعتراف السلطة بإلزامية القبول والاعتراف بأخطائها واتباع سبل الحكم الرشيد. هذا الملاذ الأخير يواجه معوقات كثيرة أولها المصالح الخاصة التي تطغى على المصلحة العامّة وغياب المُحاسبة. تغيير أسلوب إدارة موارد الدولة أصبح ضرورة مُلحّة لا يُمكن فرضها إلا من خلال القوانين التي يُطالب بإقرارها صندوق النقد الدولي على مثال قانون المناقصة العمومية.

المطامع الخارجية

الخلّل الداخلي في إدارة موارد الدولة والإقتصاد اللبناني ليس الوحيد الذي منع التنمية الإقتصادية والإجتماعية، فالتدخل الخارجي في الملف اللبناني كان له دوره الكبير سواء خلال الحرب الأهلية في سبعينات القرن الماضي أو خلال الأزمة الأخيرة. إن موقع لبنان الجيو إقتصادي في المنطقة وثرواته وفقدان الثقة بين جميع الطوائف اللبنانية ـ للأسف – لعبت دورًا كبيرًا كُمسهّل للتدخل الخارجي وعلى رأسها الملف النفطي والثروة الهائلة القابعة في البحر مقابل الشاطئ اللبناني. فالمعروف على الصعيد الجيوسياسي والجيو إقتصادية، أن الدول التي تمتلك ثروة نفطية تمتلك أهمّية جيو إستراتيجية تجعلها غير مُستقلّة كليًا في قراراتها نظرًا إلى ضرورة ثبات الموارد النفطية للإقتصاد العالمي. ويُخبرنا التاريخ من حرب الخليج إلى حرب أذربيجان ـ أرمينيا أن هناك توازن قوى في الحصول على الموارد النفطية لا يُمكن تعديله إلا بحروب عسكرية.

لبنان القابع على ثروة نفطية تفوق عدّة مئات المليارات من الدولارات بأقل تقدير، ليس شاذًا عن هذه القاعدة، وبالتالي، هناك توازن مُعين يجب فرضه ولا يُمكن تخيّل أن يكون نفط الحوض الشرقي للبحر الأبيض المُتوسّط خارجاً عن سيطرة القوى العظمّى من الولايات المُتحدة الأميركية التي أصبحت أول دوّلة في إنتاج النفط، إلى روسيا التي تُعتبر المورّد الأول للسوق الإستهلاكي الأوروبي، مرورًا بأوروبا التي تبحث عن مصادر جديدة بديلة عن الغاز الروسي، و«إسرائيل» التي تُريد تحقيق أفضلية إنتاجية وتصديرية على الدول المُجاورة. وبدل أن تستغلّ السياسة اللبنانية التدخلّ الخارجي لمصلحة لبنان، أدّى التشرذم الحاصل داخليًا والخلافات المُتزايدة إلى ربط أدّنى القرارات السيادية بقرارات دولية ورضى عواصم غربية وشرقية.

مدخل تطويع لبنان لدخول نادي الدول المُنتجة للنفط هو عبر الفوضى التي تُغذيها الإنقسامات الداخلية والدفع الخارجي. وبالتالي، فإن ما يعيشه لبنان يبقى بالدرجة الأولى نتاج ما زرعه لبنان خلال الأعوام الثلاثين الماضية وتأثير القوى الخارجية عليه. وبالتالي لا يُمكن السماح للبنان بالحصول على مداخيل نفطية إلا إذا تمّ فرض شروط مُعيّنة منها ما هو سياسي ومنها ما هو مُتعلّق بـ«الحكم الرشيد».

لبنان قادر على وقف الإنهيار، ولكن…

كما سبق الذكر، الإنهيار الحالي سببه غياب «الحكم الرشيد» وتفشّي الفساد في لبنان، لكن أيضًا غياب القرارات الإقتصادية الصائبة. وقف الإنهيار ليس بأمر مُستحيل، لا بل على العكس هو أمر ضمن قدرات الدولة وواجب عليها. وقف التدهور الإجتماعي هو واجب على الدولة نظرًا إلى أن شرعية الحكم تأتي من قول أفلاطون أن النخبة تُدير المصلحة العامة لما فيه خير المُجتمع. وبالتالي لا يُمكن التلطّي خلف أي عذر لعدم أخذ الإجراءات المُناسبة لوقف التدهور الإجتماعي الحاصل خصوصًا على صعيد الفقر.

وقف التدهور يتطلّب عددًا من الإجراءات قدّم البنك الدولي إقتراحًا في هذا الخصوص. إذًا لماذا لا يتمّ البدء بتنفيذ هذه الإجراءات بشكل سريع حتى يتمّ لجم التدهور؟ لبنان بحاجة إلى إستعادة ثقة المُجتمع الدولي ولكن الأهم ثقة مواطنيه فيه وفي إقتصاده وحكومته.

الإجراء الأول والأساسي هو تشكيل حكومة بمعايير «الحكم الرشيد» تأخذ على عاتقها وقف التدهور وإستعادة العافية. وإذا كانت الإنقسامات السياسية لا تزال تُعيق تشكيل الحكومة كما ظهر إلى العلن من تصريح رئيس الحكومة المُكلّف سعد الحريري بقوله «لا يزال هناك تعقيدات واضحة والأكيد أن هناك وضوحاً في المشاكل السياسية الموجودة» مُشدّدًا على الحاجة لـ «حكومة من إختصاصيين كي نوقف هذا الإنهيار».

الإجراء الثاني الذي يحتاجه لبنان هو تنفيذ رزمة من الإصلاحات تهدف إلى تحقيق الإستقرار الإقتصادي (أساسي في الأمن الإجتماعي)، وتفعيل الحوكمة والمساءلة، وتطوير البنى التحتية، ومكافحة الفساد، وإعتماد الشفافية.

والأهمّ في الأمر هو إعتماد مبدأ مُشاركة المواطن في الحكم من خلال اللامركزية «العقلانية» التي تعتمد على جعل المواطن شريكاً أساسياً في قرار إدارة قضاءه على أن تكون هذه اللامركزية مبنية على أسس صالحة تفتح الباب أمام التنافسية بين المناطق خصوصًا في ما يتعلّق بالإنماء وجذب الإستثمارات والعيش الكريم للمواطن أساس كل السلطات.

موقع لبنان الجيو إقتصادي

العزلة التي يعيش فيها لبنان هي من أخطر ما يُمكن أن يحصل له. فهذه العزلة ستؤدّي حكمًا إلى خسارة لبنان موقعه كبوابة إقتصادية للخليج العربي مع ما يرافق هذه الخسارة من خسائر إقتصادية كانت لتعود بالخير على لبنان وعلى شعبه. من هذا المُنطلق لا يجب على لبنان أن يتأخّر في إجراء الإصلاحات اللازمة لإستعادة موقعه مع أشقائه العرب نظرًا إلى أن البعد الإقتصادي الكبير الذي يُشكّله هذا الأمر والمعروف تاريخيًا بنقطة قوّة للبنان.

 

 

مصدرجريدة الديار اللبنانية - البروفيسور جاسم عجاقة
المادة السابقةأوروبا تستعد لصفقة التجارة مع بريطانيا في بداية كانون الثاني
المقالة القادمةالتدقيق الجنائي بالأموال العامة سينطلق مُجدّداً… بمعايير جديدة