لإسترداد الأموال المنهوبة طبقوا القانون رقم 15/44

كثرت في الآونة الأخيرة حوادث اقتحام المصارف من قبل بعض المودعين بهدف استرداد ودائعهم لدى هذه المصارف. رافق هذه العمليات بعض العنف المادي والمعنوي وانتهت جميعها بأن استعاد المقتحم قسما من وديعته.

اثارت هذه العمليات الدهشة لأنها تحصل للمرة الأولى. ولكنها اثارت الخوف من ان تخرج عن نطاقها وهدفها وتسبب ارباكا لقوى الأمن المولجة حفظ النظام، وتاليا للقضاء الذي عليه ان يطبق القانون. ذلك لأن ثمة حقين يتصارعان: حق المودع في ان يسترد وديعته كاملة غير منقوصة وحق المجتمع في منع صاحب هذا الحق من استيفاء حقه بذاته، اي منعه من اقامة العدالة لنفسه بنفسه (المادة 429 من قانون العقوبات العام وما يليها).

عندما يتصارع حقان كلاهما يتمتع بحماية القانون يصبح عمل القاضي صعبا ودقيقا لأن عليه ان يضحي بأحد هذين الحقين لمصلحة الحق الآخر. وفي مثل هذه الحالة يجب ان تكون الغلبة لحق المجتمع على حساب حق الفرد. وهذا الحل يخالف مبدأ الإنصاف الذي ينبغي ان يتقدم على العدالة.

هذه النتيجة القاسية تجعلنا نتسأل لماذا صناديق المصارف فارغة ؟ ولماذا المصارف عاجزة عن تلبية طلبات زبائنها كما هي العادة منذ ان وجدت المصارف؟!

جوابا على هذا التساؤل ومن دون الغوص في التفاصيل نحيل القارىء الى ما ورد في تقرير البنك الدولي السنوي الخاص بلبنان الذي تضمن ما خلاصته ان الأزمة المالية الحادة التي يعاني منها لبنان سببها تواطؤ السلطة السياسية الحاكمة ومصرف لبنان والمصارف التجارية معا ما ادى الى عجز المصارف عن الوفاء بالتزاماتها وفقا لما فرضه عليها القانون.

المصارف التجارية وبعد ان استشعرت بتسارع وتيرة الإنهيار عمدت الى نقل اموالها الخاصة واموال كبار المودعين لديها الى مصارف او مؤسسات مالية في الخارج حيث جرى ايداع هذا المال وفق آلية عمل دقيقة.

لهذا بات من المؤكد ان المصارف ليست في حالة إعسار فأموالها موجودة بمعظمها في الخارج وبعضها في الداخل. وما يؤكد هذا القول ان بعضا من المصارف سددت مؤخرا بعضا من زبائنها كامل ودائعهم لديها تنفيذا لحكم قضائي صدر لمصلحة هؤلاء الزبائن عن القضاء البريطاني. وقد بلغت قيمة هذه الودائع مبلغا كبيرا.
في لبنان وازاء الضغط الشديد الذي مارسه المودعون ومجموعات المجتمع المدني وبهدف توفير وسائل استرداد المال المنهوب، قامت السلطة بضخ مجموعة من القوانين مثل: قانون استعادة الأموال المتأتية عن جرائم الفساد (2021)، قانون التصريح عن الذمة المالية والمصالح العامة ومعاقبة الإثراء غير المشروع (2020)، وقانون مكافحة الفساد في القطاع العام وانشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (2020)، وقانون حماية كاشفي الفساد (2018)، ومؤخرا قانون التدقيق الجنائي وقانون السرية المصرفية… بحيث صار عندنا ما يصح تسميته بالإنفلاش التشريعي.

لكن كل هذه القوانين على اهميتها وتنوعها لم تجب على اهم نقطة وهي معالجة مشكلة الأموال المنهوبة وكيفية استعادتها. وبقيت هذه القوانين تعالج حواشي المشكلة ومن دون ان تصل الى لبِّها لأنها كانت بطيئة التنفيذ ولا تتضمن آلية واقعية وسريعة.

من جهة أخرى كان لدينا احد اهم القوانين الذي يستجيب لما نعاني منه وهو قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب الصادر في العام 2015 برقم 44 وتضاف اليه اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد الصادرة في العام 2003 والتي انضم اليها لبنان في العام 2008 ومذّاك دخلت هذه الإتفاقية في نظامنا القانوني ويمكن الإستعانة بها في سد النقص في التشريعات المحلية.

إن ما يثير الإنتباه والشك في آن هو تجنب المنظومة الحاكمة وتجاهل القانون رقم 44 اي قانون مكافحة تبييض الأموال الذي هو معد للحالات التي نشكو منها وهي حالات استرداد الأموال المنهوبة. ذلك ان هذا القانون يتسم بأهم السمات التالية:

ان التحقيق في جرائم تبييض الأموال تتولاه هيئة خاصة هي «هيئة التحقيق الخاصة لدى مصرف لبنان» التي يرأسها حاكم المصرف. ويمكن لأي شخص ان يشتكي امام هذه الهيئة.

يتضمن هذا القانون قرينة ان المال الموجود بحوزة شخص او جهة وكان مشكوكا فيه يحمل في طياته الشك في انه غير مشروع اي انه ناتج عن تبييض اموال. وعلى صاحب العلاقة يقع اثبات مشروعية هذا المال. وهذا مهم اذ يسهل عملية الإثبات والملاحقة.

من جهة ثانية انه من خلال التحقيق في مشروعية المال المشكوك فيه تسقط جميع الحصانات وكذلك السرية المصرفية دونما حاجة لأي اجراء خاص.

والأهم من كل ذلك انه عندما يثبت لهيئة التحقيق الخاصة ان المال الذي تحقق في شأنه ليس مشروعا وانه ناتج عن عملية تبييض اموال او ارهاب سمح لها القانون بأن تطلب من هيئة التحقيق الخاصة المشابهه لها والعاملة في الدولة التي يوجد فيها المال المنهوب المساعدة في استعادة هذا المال والهيئة الأجنبية لا يمكنها الا التعاون واجابة الطلب لأن عمليات تبييض الأموال ترتدي طابعا دوليا وعابرا للحدود.

وعلى الرغم من كل ما تقدم فان الأوان لم يفُت بعد لتطبيق قانون15/44 اذا شاءت المنظومة السياسية ان تستعيد الأموال المنهوبة وتعيد النظام الى العمل المصرفي كي يستعيد المودعون اموالهم وننتهي من قضية اقتحام المصارف.

مصدراللواء - القاضي الدكتور حاتم ماضي
المادة السابقةالهَلع مِن المَوْجة 5 مِن أَزمة الدّيون يقضّ مضاجع مالباس
المقالة القادمةسلوم: نحاول تأمين ادوية السرطان المجانية الى وزارة الصحة وخطورة “الكوليرا” ليست كالكورونا