لعيون رياض سلامة: الحكومة تضحّي بالاقتصاد والمجتمع

قلّما شهدت الجلسات التشاوريّة لمجلس الوزراء هذا المستوى من الانسجام العابر للأحزاب والطوائف، كما حدث يوم أمس. فباستثناء نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي، الذي طلب إقالة الحاكم صراحةً، لم يخرج أحد من سائر الوزراء عن الإجماع. المس ممنوع برياض سلامة، وعزله من منصبه قبل نهاية ولايته ليس خيارًا بالنسبة للوزراء.

وعلى هذا الأساس، سيتجه الجميع يوم الجمعة المقبل إلى جلسة لمجلس الوزراء عند الساعة الثالثة بعد الظهر، من دون أن يكون على جدول أعمال الجلسة أي شيء له علاقة بالحاكم. سيبدو المشهد غريبًا، لو كنّا نتحدّث عن بلد آخر. لكنّ كل شيء بات يحوّل السياسة وإدارة الشأن العام في لبنان إلى عصفوريّة ماليّة غريبة. رياض سلامة، مطلوب بموجب مذكرات توقيف دوليّة، ومجلس الوزراء لا يجد سببًا لأخذ أي إجراء بحقّه.

التداعيات الخطيرة بدأت منذ الآن

على مدى اليومين الماضيين، تلقّت العديد من المصارف اللبنانيّة إخطارات من مصرف “كومرس بنك” الألماني، تشير إلى اتجاه المصرف لقطع علاقته المُراسلة بها. باختصار، ارتفعت مخاطر العمل مع لبنان، كما ارتفعت كلفة الـDue Diligence (أي العناية الواجبة) المطلوبة للتعامل مع هذه المخاطر. وفك الارتباط مع بلد المخاطر المرتفعة، بات أجدى ماليًّا من الاتصال معه. كما بات من المتداول اليوم أنّ المصرف يتجه نحو إقفال مكتبه التمثيلي في لبنان، ونقل إدارة عمليّاته الإقليميّة إلى الأردن.

ومن المهم الإشارة إلى أنّ المصارف اللبنانيّة عانت أساسًا على مدى السنوات الماضية من تقلّص عدد المصارف الأجنبيّة التي تقبل التعامل معها، نتيجة تفشّي الاقتصاد النقدي محليًا، وتزايد احتمالات إجراء العمليّات غير مشروعة، من خلال المصارف اللبنانيّة.

أمّا الآن، فهذه المخاطر ارتفعت بشكل كبير، بعد صدور مذكرات التوقيف الفرنسيّة والألمانيّة والنشرة الحمراء، بحق حاكم مصرف لبنان، وهو ما يفسّر قرار “كومرس بنك” الأخير. فالفار من وجه العدالة، ليس سوى رأس هيئة التحقيق الخاصّة، التي يفترض أن تكون مسؤولة عن مكافحة تبييض الأموال ضمن النظام المالي اللبناني. وهو أيضًا رأس الهيئة المصرفيّة العليا، التي يفترض أن تتخذ الإجراءات بحق المصارف، التي تخالف القانون أو تنخرط في عمليّات مشبوهة.

وعلى هذا الأساس، بات البديهي والواضح أن التعامل مع هذا البلد أصبح محفوفًا بالمخاطر، وخصوصًا إذا ما تذكرنا أنّ مذكرات التوقيف صدرت بحق الحاكم على خلفيّة عمليّات غير مشروعة حصلت بين النظام المصرفي اللبناني والمصارف الأوروبيّة. وأن بعض المصارف الأوروبيّة باتت مهدّدة بتحمّل غرامات كبيرة، نتيجة تغاضيها عن القيام بالعناية الواجبة عند تلقي وتمرير تحويلات رجا ورياض سلامة. وبعد قرار “كومرس بنك”، من المتوقّع أن تكرّ السبحة خلال الأسابيع المقبلة، لتطول لائحة المصارف اللبنانيّة التي ستخسر علاقتها بالمصارف المراسلة.

وفي الوقت الراهن، بدأت مجموعة من المصارف الأوروبيّة، التي لم تقطع علاقتها بلبنان بعد، بدراسة الخيارات المتاحة أمامها، وخصوصًا في ما يتصل بعلاقتها مع مصرف لبنان، وكيفيّة تلقي التعليمات المرتبطة بتحريك المصرف المركزي لاحتياطاته المودعة في أوروبا. مع الإشارة إلى أنّ أحد المخارج قد يكون السماح بتنازل الحاكم عن بعض صلاحيّاته لأحد نوّابه، كما يتيح قانون النقد والتسليف، لتفادي تلقي تعليمات ممهورة بتوقيع الحاكم مباشرة. لكن بالرغم من وجود هذا المخرج الركيك، قد لا تجد هذه المصارف نفسها مضطرّة لتحمّل مخاطر التعامل مع مصرف لبنان، بإدارته الحاليّة.

تقرير مجموعة العمل المالي

خلال أقل من أسبوع من الزمن، من المفترض أن يصدر تقرير مجموعة العمل المالي، الذي يقيّم درجة امتثال البلدان لمعايير مكافحة تبييض الأموال. وتمامًا كما أشارت وكالة “رويترز” أمس، ومن قبلها “المدن” في أواخر شهر آذار الماضي (راجع المدن)، من المتوقّع أن تكون نتيجة التقرير إحالة لبنان إلى اللائحة الرماديّة، ما يعني إخضاع عمليّاته الماليّة مع الخارج إلى الرقابة المشدّدة من قبل المصارف المراسلة.

النتيجة الأولى لهذا التطوّر ستكون مجددًا: ارتفاع كلفة العمليّات بين لبنان والخارج، وتقلّص عدد المصارف المراسلة التي تتعامل النظام المالي اللبناني، وزيادة عزلة لبنان ماليًا (راجع المدن). أمّا النتيجة الثانية، فهي احتمال تعقّد مسار مفاوضات لبنان مع صندوق النقد، تمامًا كما حصل مع المغرب سابقًا، الذي تفرمل برنامج تمويله مع الصندوق عند إدراجه في اللائحة الرماديّة. أمّا الخروج من اللائحة الرماديّة ومعالجة هذه الإشكاليّات، فلن يكون ممكنًا قبل أقل من سنة ونصف السنة، هذا إذا التزم لبنان ببرنامج تصحيح توافق عليه مجموعة العمل المالي.

في كل الحالات، ما يجري على مستوى تقرير مجموعة العمل المالي لن يكون بعيدًا عن تطوّرات ملف حاكم مصرف لبنان. فبعض الأسباب التي ستدفع مجموعة العمل المالي باتجاه هذا القرار، تتصل بتفشّي الدولرة النقديّة وتوسّع نطاق الاقتصاد النقدي. إلا أنّ الأسباب الأخرى تتصل أيضًا بالدعاوى القضائيّة التي طالت المصارف وحاكم مصرف لبنان، وخصوصًا في قضايا تبييض الأموال. مع الإشارة إلى أنّ الادعاء اللبناني على الحاكم بشبهة تبييض الأموال جرى بطلب من أعلى سلطة ادعاء عام، أي مدعي عام التمييز، فيما جرى الادعاء على المصارف بالشبهة نفسها من قبل النيابة العامّة الاستئنافيّة.

عمليًا، ستتقاطع تداعيات مذكرات التوقيف ونشرة الإنتربول الصادرة بحق حاكم مصرف لبنان، مع تداعيات إدراج لبنان على القائمة الرماديّة لمجموعة العمل المالي، والتي ترتبط بعض أسبابها بمسألة الملاحقات القضائيّة الجارية بحق الحاكم والمصارف. وفي المحصّلة، سيمضي الاقتصاد اللبناني بعيدًا باتجاه العزلة الماليّة، كما ستتعقد الأسباب التي تمنع البلاد من المضي باتجاه مسار التصحيح المالي. أمّا بقاء سلامة حتّى نهاية شهر تمّوز، فسيجعل كل شيء صعب. السؤال الأهم: لماذا يخافون إقالته قبل هذا الموعد؟ ولماذا ينصاعون لتعنّته؟

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةالطاقة الشمسية… تكلفة مرتفعة لضرورة ملحة في سوريا مع انقطاع الكهرباء
المقالة القادمةلبنان على القائمة الرمادية المالية: عزلة دولية ومخاطر كبرى