أثبتت أزمة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، الذي ظهر في مدينة ووهان الصينية، وانطلق منها ليضرب اقتصادات الدول بصورة فاقت ما حدث في الأزمة المالية العالمية في عام 2008 وقبلها وهجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، وأزمة فقاعة الإنترنت، وما سبق ذلك من أزمات خلال العقود التسعة الأخيرة، ارتباط اقتصادات العالم واعتمادها على بعضها البعض بصورة لم تكن متوقعة، الأمر الذي تسبب في عدم استثناء أي دولة من التبعات الاقتصادية لانتشار الوباء، بغض النظر عن مدى انتشاره فيها. وفي الربع الأول من العام الحالي، ومع بداية أزمة توقف الاقتصاد الأميركي وأوامر الإغلاق التام، وبعد انهيار أسعار الأسهم توقعاً لتراجع الاقتصاد الحقيقي خلال الشهور التالية، انتظر كثير من الأميركيين، وعلى رأسهم الرئيس الأميركي دونالد ترامب، استعادة الاقتصاد انتعاشه خلال فترة وجيزة، فيما يشبه حرف V اللاتيني، مع تراجع انتشار الفيروس وفتح المصانع والشركات والمحال أبوابها من جديد. لكن الواقعيين من الاقتصاديين الأميركيين توقعوا أن يحتاج الاقتصاد الأميركي، كما أغلب الاقتصادات الكبرى حول العالم، بعض الوقت ليعود إلى ما كان عليه قبل الوباء، فيما شبهوه بحرف U اللاتيني. ومع استعادة مؤشرات الأسهم، التي يتعامل معها الأميركيون على أنها تسبق الاقتصاد الحقيقي بفترة يقدرها البعض بستة أشهر، عافيتها، ظهرت توقعات بوصول الاقتصاد الأميركي لمعدلات نمو تفوق ما كان موجوداً قبل الأزمة واستقراره عندها لبعض الوقت، فيما شبهه المحللون برمز الجذر التربيعي √ أو رمز علامة صح ✓ وكلاهما يتميز بتفاؤل واضح تجاه تجاوز معدلات النمو التي سبقت ظهور الوباء.
ومع نفاد حزمة التحفيز الاقتصادي الضخمة التي أقرها الكونغرس الأميركي قبل أكثر من خمسة أشهر، واستمرار التباطؤ في الاقتصاد الحقيقي رغم ارتفاعات أسعار الأسهم، ومع استمرار العناد بين الحزبين وغياب التوافق على حزمة تحفيز جديدة للاقتصاد، تحولت التوقعات إلى حرف L اللاتيني، في إشارة إلى استمرار الركود الاقتصادي لفترة عند أسوأ حالاته، وعدم وجود رؤية واضحة للمدى الزمني لاستمراره.
ولا يعدم المحللون وصفاً لتوقعاتهم لنمو الاقتصاد الأميركي، وكانت آخر تلك التوقعات هي انتعاش على شكل حرف K اللاتيني، حيث تقوى بعض القطاعات بعد ضعفها، بينما يزداد ضعف قطاعات أخرى، لتكون مهددة بالاستغناء عنها تماماً.
فمن ناحية، كان هناك العديد من القطاعات التي شهدت ازدهاراً يفوق التوقعات وخلقت المزيد من الثروات، وشملت على الأغلب العديد من الوظائف المهنية الذين تعمل نسبة كبيرة منهم من المنزل في الوقت الحالي، ويبدو عليهم أنهم أكثر انشغالاً مما كانوا قبل ظهور الفيروس.
ولا يمكن وصف القطاعات التي يعمل فيها هؤلاء، وتشمل التكنولوجيا والتمويل والخدمات العامة، بأنها بدأت الانتعاش، لأنها لم تتعرض أبداً للركود، ولم تقلص الوظائف، ولم يزدد العاملون فيها إلا ثراءً. ويمثل الوجه الآخر من عملة الاقتصاد الأميركي حالياً قطاعات أخرى تعرضت لضربة قاصمة من الفيروس، حيث توقفت إيراداتها تماماً أو كادت لمدة تجاوزت الشهرين، ولم تتمكن حتى الآن من استعادة ربع عافيتها، رغم فتحها بنسب مختلفة منذ أكثر من أربعة أشهر.
وتشمل تلك القطاعات الفنادق والطيران والترفيه والمطاعم، حيث اضطر العديد من الشركات العاملة فيها إلى تسريح أعداد كبيرة من العمالة بعد أن تقلصت ساعات عملها، وفُرضت الكثير من الشروط المانعة لوصولها لطاقتها القصوى. ومع استمرار الحماس الحالي لتجنب التلامس والفصل بين الأفراد، ستمتد الأتمتة إلى العديد من الوظائف، وهوما سيظهر قريباً في شكل الجزء الهابط من حرف K، ليعكس ارتفاعاً متوقعاً في نسب البطالة وتراجع معدلات نمو النشاط.
وبعد أسابيع من توقف المفاوضات بين قادة الحزبين الجمهوري والديمقراطي، والإخفاق في التوصل إلى اتفاق جديد بشأن حجم وأوجه إنفاق حزمة الإنقاذ الجديدة، فشل أعضاء مجلس الشيوخ من الحزب الجمهوري في الحصول على الأصوات المطلوبة لتمرير حزمتهم المقترحة، بعد أن تم تخفيض قيمتها بصورة كبيرة، ولم تشمل تقديم التمويل المطلوب لحكومات الولايات، التي أضحى بعضها على شفا الإفلاس.
وفي الوقت الذي كان مطلوباً فيه موافقة ستين عضواً من أعضاء المجلس المائة على الفاتورة الهزيلة التي اقترحها الجمهوريون، والتي لم تتجاوز مبلغ خمسمائة مليار دولار، كانت أهم معالم تلك الحزمة تتمثل في تعديل قيمة تعويضات البطالة الاستثنائية المقدمة لمن فقدوا وظائفهم بسبب الفيروس، من 600 إلى 400 دولار أسبوعياً، تتحمل حكومات الولايات ربعها، بالإضافة إلى عدم تخصيص أي مدفوعات نقدية مباشرة أو مخصصات لتقديم إعانات مباشرة للمواطنين.
ورغم تفضيلهم في الظروف الطبيعية عدم التدخل في المعارك الحزبية في السياسة الأميركية، وعدم الإدلاء بدلوهم في الأمور الموكلة للمُنْتَخَبين، من إنفاق حكومي وضرائب وإعانات بطالة، إلا أن الأحوال غير العادية التي تمر بها البلاد، دفعت جيروم باول رئيس مجلس الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) إلى التلميح في أكثر من مناسبة إلى ضرورة تدخل الكونغرس لتعويض من فقدوا وظائفهم وكذلك أصحاب الشركات التي توقفت أو تراجعت أعمالها، والولايات التي تعاني من نقص إيراداتها بسبب الوباء.
ويحاول البنك المركزي الأميركي الاستعانة بالسياسة المالية لمساعدته في الخروج بالاقتصاد من النفق المظلم الذي دخله، خاصة أن أغلب الأدوات التي كانت متاحة لديه أوشكت على النفاد، بعد مضاعفة حجم ميزانية البنك بما تم شراؤه من سندات، ووصول معدلات الفائدة إلى مستوياتها الصفرية، واطمئنان أغلب الأسواق إلى عدم عودتها للارتفاع قبل عام 2024.
وفي الوقت الذي تجاهلت فيه الإدارة الأميركية النداءات المتكررة من البنك بالتدخل، يبدو أن ترامب يحاول كسب بعض الوقت، قبل أن يبدأ في توزيع المليارات، لتصل إلى مستحقيها قبل أيام من موعد الانتخابات، فتكون حاضرة في ذاكرتهم صبيحة الثالث من نوفمبر / تشرين الثاني القادم، يوم يكتب كل واحد منهم اسم الشخص الذي يريد أن يراه في البيت الأبيض لأربع سنوات قادمة.