مسؤولية مصرف لبنان: الخطيئة الأولى في إدارة سعر الصرف

أول تعليق تناول الدور الخطير الذي يمكن ان يؤديه أي مصرف مركزي صدر في 10 حزيران 1932، بعد حوالى عشر سنوات من مؤتمرBruxelles الذي عقدته جمعية الامم Societe des Nations عام 1920 لترتيب اعادة النهوض المالي الاوروبي. حيث دعا المشاركون في ختامه الى انشاء مصرف مركزي في كل دولة لا يوجد فيها بعد. التعليق كان من المصرفي الاميركي Louis Thomas McFadden الذي كان يشغل منصب الممثل الجمهوري لولاية Pennsylvanie في مجلس النواب، فقد ذكر التالي في خطبة شهيرة له امام المجلس الاخير تعليقاً وتقييماً لدور واداء الـ FED في ازمة عام 1929:

« لدينا في هذا البلد واحدة من أكثر المؤسسات فساداً التي عرفها العالم. أعني الاحتياطي الفيدرالي الـ FED ( المصرف المركزي ). هذه المؤسسة الشيطانية أفقرت ودمرت شعب الولايات المتحدة، وأفلست نفسها، وهي على وشك افلاس حكومتنا. لقد فعلت ذلك من خلال الثغرات الموجودة في القانون الذي تعمل بموجبه، من خلال سوء إدارة هذا القانون من قبل مجلس ادارة المصرف، ومن خلال الممارسات الفاسدة للنسور التي تسيطر عليه…».

احد النواب الحاضرين قاطع السيد McFadden قائلاً: سيدي اضم صوتي الى صوتك في ما خص فساد مصرفنا المركزي، واكبر دليل على ذلك سماحه لك ان تكون انت السياسي رئيس مجلس ادارة مصرف تجاري !

2008 ومسؤولية آلان غرينسبان

آخر الازمات الاميركية كانت ازمة الرهونات العقارية، وقد انفجرت عام 2008 واطاحت بالعديد من المؤسسات المصرفية والمالية والاستثمارية، مخلفة بتردداتها انهيارات وكوارث مماثلة في منطقة اليورو، ومظهرة تكراراً الدور الخطر للمصرف المركزي وايضاً الالتباس الذي قد يقع فيه حتى الاخصائيون بتقييم اداء ادارته.

المسؤول الاول والمباشر عن الازمة الاخيرة كان حاكم الـ FED السيد Alan Greenspan لاعتماده سياسة معدلات فوائد منخفضة شجعت على الاقتراض العقاري. وبالتالي على التوسع غير المنضبط في اصدار سندات الرهونات العقارية وطرحها للتداول في الاسواق الى ان انفجرت فقاعتها. وقد اعتبر من قبل الجمهوريين والديمقراطيين على السواء «ايقونة « العمل المصرفي المركزي، فاستبقوه في منصبه لمدة تقارب العشرين عاماً. كما حصد اكبر عدد من التنويهات والميداليات والجوائز الاميركية والفرنسية والانكليزية. امر لم يحصل مع اي حاكم مصرف مركزي في العالم لا قبله ولا بعده، ما دفع بالمرشح الرئاسي John McCain الى اقتراح اقامة تمثال تذكاري له في مدخل مبنى الـ FED تكريماً له وعرفاناً بانجازاته ومآثره…

المقارنة مع لبنان من زاويتين

الازمة اللبنانية يقاربها البعض بما حصل في الولايات المتحدة الاميركية من زاويتين معينتين على الاقل. فهي صنفت حسب البنك الدولي من ضمن اقسى واعتى ثلاث ازمات عرفتها البشرية منذ منتصف القرن التاسع عشر ما يقرّبها من ازمة 1929 الاميركية المسماة بـ «الكساد الاعظم». وهي ايضا كالازمة الاخيرة وأزمة الـ 2008 كشفت عن تشابه في دور لادارة المصرف المركزي في التسبب بما حصل. وامتد التشابه الى امور اخرى، فحاكم مصرف لبنان كنظيره الاميركي بقي في منصبه ثلاثين عاماً في دلالة على رضى مختلف الفرقاء السياسيين على ادائه، وحصد ايضا العديد من الجوائز والميداليات العربية والاجنبية.

حاكم مصرف لبنان ينفي عن المصرف وعن نفسه اي خطأ او تقصير قد يكونا قد تسببا في الازمة اللبنانية الكارثة. ويرى ان ما يقال ويكتب عنه شخصياً يرمي الى تقديمه كبش فداء عن الآخرين. قول لا يتماهى من حيث المبدأ مع ما خلص اليه البروفسور Barry Eichengreen استاذ الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة California-Berkeley، وهو صاحب اكثر من 20 مؤلفاً في الاقتصاد والنقد والدين العام. فقد كتب في 10 ت2/ 2017 بحثاً مهماً عنونه بالتالي: Central Banks in the Dock «المصارف المركزية في قفص الاتهام». ذكر فيه ان الاخيرة باتت اليوم وعند كل ازمة حاضرة على الدوام في دائرة الاتهام بعد ان ثبت تسببها او ارتباطها الوثيق بشكل او بآخر بكل الاضطرابات والكوارث المالية، التي اندلعت خلال العقود الماضية في شتى ارجاء المعمورة في الولايات المتحدة الاميركية والاتحاد الاوروبي والمكسيك وأميركا اللاتينية وآسيا وروسيا وغيرها…

الإنحرافات الصارخة بعد الطائف

لبنان لا يشذ عن القاعدة السابقة في ما خص الازمة الكارثة التي سقط فيها، فاي استعادة علمية وموضوعية للدور الذي اداه مصرف لبنان بعد الطائف يكشف انحرافاً صارخاً عن: (1)- مبادئ اساسية منصوص عليها في القانون الذي يحكم ادارته وعملياته اي قانون النقد والتسليف وشروحاته، كما وردت في اسبابه الموجبة، (2)- بديهيات ومسلمات وتوجهات اعتمدت في عدد من قوانين المصارف المركزية المعاصرة، والتزمت بها ادارات الاخيرة بصرامة و(3) ممارسات سابقة ومترسخة لمصرف لبنان قبل الطائف ومنذ تأسيسه.

مجال الانحرافات التي سجلت على اداء مصرف لبنان واسست لاندلاع الازمة الكارثة متنوعة. بدأت تاريخياً بموضوع ادارة سعر الصرف، تبعها تطبيق غير سوي لعدد من احكام قانون النقد والتسليف، على الاخص تلك المتعلقة بتمويل الخزينة والقطاع العام عموماً بما في ذلك عمليات الدعم، وايضاً تقديم التسهيلات للقطاع الخاص وبالتحديد المصارف، كما العمليات بالعملات الاجنبية المتعلقة بتكوين الاحتياطات والتوظيفات الالزامية وضبط السيولة والنقود والودائع المشتقة، وتنظيم اداء وعمليات المصارف بما في ذلك الجزاءات التي تفرض على المخالفين منها. كذلك سجلت انحرافات في ممارسة الشفافية المتعارف على اهمية الالتزام بها، كمقابل لتمتع المصرف المركزي بالاستقلالية ولو المالية وامور اخرى متنوعة ذات صلة.

تجارب ألمانيا وسويسرا وإنكلترا

يقول Ludwig Erhard وزير الاقتصاد الالماني ومهندس المعجزة الاقتصادية التي حصلت في الخمسينات والستينات الماضية «ان استقرار النقد حق من حقوق الانسان».

حاكم المصرف المركزي الالماني الاسبق السيد Karl Otto Pöhl اقترح في احدى المناسبات تعديل شرعة الامم المتحدة لحقوق الانسان، بـ «اضافة حق الاخير باستقرار النقد الى لائحة الحقوق الواجب حمايتها بمقتضى شرعة الامم المتحدة»، ليقينه ان هذا الامر بات في الوقت الراهن من مقومات اي حياة انسانية كريمة.

وزير الاقتصاد والمال الالماني Karl Schiller يرى «ان استقرار النقد ليس كل شيء بل بدونه كل شيء يصبح عدماً».

الألمان خبروا مرتين في القرن المنصرم اقسى الانهيارات النقدية واعتاها مرارة، من هنا تشددهم الصارم بالتمسك بالقواعد التي اهتدوا اليها لضمان استقرار نقدهم، وقد نقلوها الى المصرف المركزي الاوروبي عند تأسيسه وراقبوا بدقة حسن تطبيقها، من اهمها استقلالية الاخير.

زائر المصرف المركزي الالماني الـ BundesBank يسمع من مدرائه شرحاً مسهباً وقيماً عن مفهومهم لاستقلالية مصرفهم. فهي ليست بنظرهم استقلالية عن independence de بل هي استقلالية مع independence avec. بمقتضاها يتدارس مصرفهم والحكومة سوياً، عملاََ بقانون المصرف قبل الانضمام الى الاتحاد النقدي الاوروبي، شتى الامور ذات الصلة بالنقد على الاخص سعر الصرف المستهدف للمارك الالماني على ضوء الاهداف الاقتصادية المحددة من قبل الحكومة والامكانيات المتاحة للدفاع عن هذا السعر من قبل المصرف، ويكون من اختصاص الاخير رسم السياسات واعتماد الاجراءات العملانية لتحقيق الاستقرار في سعر الصرف المستهدف.

المنحى ذاته تعتمده سويسرا التي تنص على استقلالية مصرفها المركزي كالمانيا بنص دستوري، فالمادة 99 ذات الصلة من دستورها تذكر بوضوح ان المصرف الوطني السويسري يعتمد سياسة نقدية «تخدم الصالح العام بمساعدة واشراف الاتحاد».

انكلترا التي تأخرت عن الآخرين لعام 1997 في تجهيز مصرفها المركزي بالاستقلالية، تحت ذريعة ان مجلس العموم هو الممثل الحقيقي لارادة الناس، ولا يجوز بالتالي ان تستقل هيئة اخرى غير منتخبة من قبل الشعب بالبت بأمر حيوي يهم العموم كالنقد. والحل الذي تم التوصل اليه كان التشدد والتركيز على توصيف استقلالية المصرف المركزي بانها استقلالية عملانية operationnelle.

المعتمد دستورياً وقانوناً في لبنان

مضمون التوجهات السابقة هي المعتمدة دستوراً وقانوناً في لبنان. فالماد 65 من الدستور تنص بشكل صريح على ان مجلس الوزراء هو الذي يضع السياسات العامة للدولة في جميع المجالات، ما يستدعي تفسير المادة 33 من قانون النقد والتسليف، التي تمنح المجلس المركزي لمصرف لبنان صلاحية تحديد السياسة النقدية، من ضمن اطار المادة 65 المذكورة. فيكون هناك تشاور بين الحكومة ومصرف لبنان بخصوص الاهداف النقدية التي يتطلبها الصالح العام، على الاخص سعر الصرف الواجب استهدافه في سوق القطع على ضوء الامكانيات المتاحة. ويكون لمصرف لبنان مطلق الصلاحية في اعتماد السياسات العملانية للعمل على استقرار سعر الصرف على المعدل الذي تقرر استهدافه ووفقاً لامكانياته.

الآلية الآنفة الذكر المتضمنة اتصال وتتبع واشراف ومشاركة مجلس الوزراء مصرف لبنان في تحديد الغايات المستهدفة في المجال النقدي وبرقابة نهائية من السلطة التشريعية، لم يعمل بها بعد التسعينات. وكان هناك تقصد بإهمالها واستبعادها عمداً، وكان هذا الامر الخطوة او الخطيئة الأولى في درب الانهيار.

فالنائب ياسين جابر اعترف لـموقع «أساس» في 17 تشرين الثاني 2020 «أنّ السلطة السياسية تخلّت ومنذ زمن، وبإرادتها، عن دورها، وتركت الأمر لمصرف لبنان بشرطين: (1)- الحفاظ على استقرار سعر صرف الليرة على الـ1500، (2)- تأمين الدولارات لسدّ عجز الموازنة. وهي الدولارات عينها لتمويل المشاريع التي استفاد منها الجميع، وقدم التمويل لفسادهم تالياً. وطالما أمّن البنك المركزي هذين المطلبين لم يقم أحد بمساءلته».

وجهة نظر سلامة والقصور فيها

حاكم مصرف لبنان رياض سلامه ذكر في ورقة قدمها الى الاجتماع الثامن لحكام المصارف المركزية في البلاد الفرنكوفونية في داكار عام 2001، وحملت عنوان «سعر الصرف وفعالية السياسة النقدية»: «ان مصرف لبنان اعتمد منذ عام 1993 سياسة تثبيت» سعر صرف الليرة بالنسبة للدولار لانها الاكثر توافقا مع الطابع الحر للاقتصاد اللبناني(؟؟؟) ولان حسنات هذه السياسة (1)- انها تحفظ البلاد من السقوط في الدائرة الجهنمية التضخم/ تصحيح الاجور، (2)- انها تحسن القدرة الشرائية للمستهلكين و(3) انها تجذب رؤوس الاموال الخارجية، وهي تفوق مساوئها والتي هي (1)- الارتباط باقتصاد الدولة التي تم ربط العملة بها على الاخص بمجال معدلات الفوائد، (2)- الضغط على استقلالية السياسة النقدية بربطها بالسياسة النقدية للدولة التي تم ربط الليرة اللبنانية بعملتها. كلام صحيح لكن جزئياً، فهو اسقط الاشارة الى امرين بالغي الاهمية التاليين:

1- ان قرار تثبيت سعر الصرف اتخذ بقرار اداري منفرد من قبل مصرف لبنان اي بشكل مخالف للدستور وبالتحديد المادة 65 منه التي تتحدث كما اسلفنا عن دور لمجلس الوزراء في تقرير اية سياسات عامة. وهذا الامر يتعلق باهم موضوع يخص المواطن وهو القوة الشرائية لدخله والحفاظ على قيمة مدخراته. لقد عرض حاكم مصرف لبنان في احدى اطلالاته للموضوع فذكر ان قرار التثبيت حصل سندا للبيانات التي كانت تتقدم بها الحكومات الى المجلس النيابي للحصول على ثقته. اقرار لا يستقيم قانوناً لانه يخلط بين الحكومة ومجلس الوزراء كما وآليات ومستلزمات اتخاذ الاخير لقراراته على نحو اصولي.

2- ان قرار تثبيت سعر الصرف لم يشر الى مصادر دعمه او تمويله. وقد تبين لاحقاً انه من خلال اعتماد انموذج Ponzi Scheem حيث ظهر ان الاموال المتحصلة من هذا الانموذج والمتأتية بقسم كبير منها من اموال المودعين بالعملات الاجنبية بمقتضى هندسات مالية اجريت بين المصارف ومصرف لبنان كانت وراء الفجوة المالية في حسابات الاخير. وقد استعملت جزئياً لتثبيت سعر الصرف حيث ذكرت مقدمة ورقة حكومة الرئيس ميقاتي المؤرخة 9 ايلول 2022 عن «خطة التعافي المالي» في الصفحة رقم 4 التالي: «تكمن الاسباب الاساسية لأزمة لبنان المالية في اعتماد سياسة مالية غير منضبطة معطوفة على سياسة نقدية سعت الى الحفاظ على سعر صرف مبالغ في قيمته من خلال نظام صارم لتثبيته مع اسعار فائدة عالية». علماً ان صندوق النقد الدولي لفت في عدد من تقاريره الى سلبية وخطورة الاستمرار بـ «تثبيت سعر الصرف» بتوجه يتماهي مع ما هو متفق عليه من قبل عموم الاخصائيين بأمور النقد من ان التثبيت هو على الدوام اجراء موقت او انتقالي، ولا يجوز ولا يمكن الاستمرار به والا كانت كلفته عالية ومرهقة.

لقد كانت الحجة الاساسية المعلنة من مصرف لبنان دفاعاً عن التثبيت ان تكلفته مهما بلغت ومهما كانت غالية تبقى اقل بكثير من تكلفة الاضطرابات النقدية والاقتصادية والاجتماعية التي يمكن ان تتأتى من عدم انضباط سعر الصرف. وقد أتت الازمة الراهنة لتظهر عدم سلامة هذا الرأي بالمطلق. فنتيجة التثبيت لثلاثة عقود متتالية ومن خلال الاستقراض انتهت بكارثة نقدية ومصرفية قل مثيلها.

إجراءات اتخذت للتمويه

جدير بالذكر ان اجراءات عدة اتخذت للتمويه عن الانحرافات التي شابت عملية التثبيت الزائفة لسعر الصرف منها (1)- توقف مصرف لبنان عن الافصاح في بياناته عن احتياطيه الصافي بالعملات الاجنبية. وكانت الحجة المبداة التمويه على المضاربين (2)- الضغط، عند عودة العمل في بورصة بيروت، لعدم اعادة تشغيل ردهة تبادل العملات لديها، وهي المكان الطبيعي والقانوني لاجراء العمليات اليومية على العملات واعلان اسعار الاقفال، (3)- تكليف مديرية القطع لدى مصرف لبنان بالاعلان اليومي عن السعر الثابت لسعر الدولار بالنسبة لليرة. وكانت الحجة المقدمة لهذا التدبير ان حجم التعامل ما بين مصرف لبنان والمصارف هو الاكبر والاكثر تأثيرا في تحديد سعر الصرف. وقد اثبتت الوقائع لاحقاً عدم صحة هذه الحجة بدليل انشاء مصرف لبنان لـ « صيرفة» حيث تحول اللبنانيون من خلالها الى مضاربين بكل معنى الكلمة وان كانت فئاتهم تتغير باستمرار من وقت لآخر. وحصل الامر خلافاً لاحكام قانون النقد والتسليف الذي لا يمنح مصرف لبنان صلاحية انشاء هكذا منصة كما هو الامر بالنسبة لغرف المقاصة. فنص المادة 83 الذي استند اليه بانشاء هذه المنصة يشير بوضوح الى قيام مصرف لبنان بشراء العملات الاجنبية وبيعها من الجمهور، بمعناه الواسع، «مباشرة» اي من خلال صناديقه وليس من خلال المصارف لتدارك انحرافات متنوعة من النوع الحاصل راهناً من خلال «صيرفة» وغيرها.

المسؤولون عن الإنحراف الخطير

واضح مما سبق ان سوء ادارة سعر الصرف لا بل الانحراف الخطير في هذه الادارة كانا من المسببات الاساسية للازمة الكارثة كما اقرت بذلك ورقة الرئيس ميقاتي عن خطة التعافي المالي، ويتحمل المسؤولية فريقان:

الاول، ويتمثل بجميع اعضاء المجالس الوزارية منذ عام 1993 على الاخص رؤساء الحكومات ووزراء المال والاقتصاد والعدل، الا من سجل تحفظه خطياً واصولاً، بسبب تخاذلهم عن القيام بواجبات منصوص عليها صراحة في المادة 65 من الدستور تندرج من ضمنها مهمة تحديد سعر الصرف المستهدف بالتوافق والتشاور مع مصرف لبنان وفقاً للامكانيات المتوافرة. وتخاذلهم يصدق عليه التكييف الذي خلعته محاكم ايسلندا على المتهمين الرسميين المقصرين بواجباتهم من انهم ليسوا فقط مسؤولين responsables بل ايضا مذنبين coupables بمفهوم القانون ويتعرضون للملاحقة القضائية وفقاً لأحكامه.

الثاني، وهم القيمون على ادارة مصرف لبنان منذ العام 1993، الا من سجل تحفظه خطياً واصولاً، ومسؤوليتهم ليست فقط بسبب تجاوز السلطة بتجاوز احكام المادة 65 الآنفة الذكر، لكن ايضاً بسبب اساءة استعمال السلطة باستعمال اموال المودعين بالعملات الاجنبية المتحصلة من هندسات مالية متنوعة اجراها مصرف لبنان مع المصارف، فاقت تكلفتها النهائية الناتج المحلي الاجمالي الاخير، بعملية تثبيت مشكوك بسلامتها لسعر الصرف وتتضمن مخاطر راجحة بتبديد لايداعات المودعين. ولاحقاً بالزام الاخيرين وبشكل مخالف للقانون، بالتحديد المادة 307 تجارة، باجراء سحوبات من حساباتهم بالدولار باسعار صرف ادنى من مستوياته الواقعية او لدى»صيرفة»، ومن مستويات تعامل مصرف لبنان بالذات مع المصارف، بهدف تحقيق اثراء بلا سبب، بالمنظار المدني، واثراء غير مشروع، بالمنظار الجزائي، لغاية تحقيق إطفاء في الخسائر لدى مصرف لبنان والمصارف بمفعول تضخمي.

المجلس الدستوري يفوّت فرصة ذهبية

قدّر للمجلس الدستوري مؤخراً ان يضع يده، بمعرض الطعن المقدم بموازنة عام 2022، على موضوع دستورية ما ورد فيها من استيفاء الدولة اللبنانية البدلات المحددة بالعملات الاجنبية على الخدمات التي تقدمها عبر مختلف المؤسسات، المملوكة او الممولة او المدارة من قبلها، وذلك بالليرة اللبنانية وفقا «للتسعيرة التي يحددها مصرف لبنان». فرأى، اي المجلس الدستوري، ان الامر السابق لا يعدو كونه مجرد تعديل لنص سابق مماثل ورد في قانون موازنة عام 2020 وتضمن ان يكون الاستيفاء وفقاً للتسعيرة الرسمية التي يفرضها مصرف لبنان «، ليخلص الى رفض الطعن المعروض امامه بخصوص التسعيرة.

لقد سبقت الاشارة اعلاه الى اقوال مسؤولين كبار يرون ان النقد حق من حقوق الانسان، والكلام الذي يمكن اضافته هنا هو لشخصيتين مميزتين هما:

الاول، للمستشار الالماني Konrad Adenauer، الذي وضعه السيد Kissinger على راس لائحة من ست اشخاص كان لهم الفضل في اعادة بناء عالم ما بعد الحرب الكونية الثانية، وهو القائل «ان سلامة النقد هي الشرط الاول للحفاظ على اقتصاد السوق والدستور والدولة».

والثاني للاقتصادي الانكليزي الذائع الصيت John Maynard Keynes يقول فيه « لا توجد طريقة أكثر دقة وخفية للإطاحة بالنظام في اي مجتمع أفعل من إفساد عملته».

وعليه ليس صحيحا ما ذكره قرار المجلس الدستوري بـ» ان الامر المطعون فيه لا يندرج ضمن مخالفة الدستور، وبالتالي لا يقع تحت رقابة المجلس الدستوري، وانه لا يمس قاعدة دستورية اساسية او حقاً من الحقوق الدستورية الاساسية او مبدأ من المبادئ ذات القيمة الدستورية…».

فتحديد مصرف لبنان لسعر الصرف ادارياً وبمطلق ارادته الذاتية هو أمر مجاف بوضوح للمادة 65 من الدستور، وايضاً لمقدمته التي تعتبر ان النظام الاقتصادي حر وقد تمت ممارسته منذ الاستقلال على اساس حرية القطع بدون اي فرض سعر الزامي وسجل لبنان باطاره مراتب عالمية عليا في قيمة واستقرار عملته الوطنية دفعت بلدانا مثل الجزائر والهند الى الاقتراض بالليرة اللبنانية. واول تحول الى نظام سعر الصرف الثابت حصل في بداية التسعينات من دون اي قرار اصولي يراعي المادة 65 من الدستور.

ايضا اسعار الصرف المتعددة المعمول بها حاليا صدرت كلها بقرارات ادارية من مصرف لبنان. وهي تخالف فضلاً عن الاحكام القانونية التي استندت اليها وبوضوح مبدأ المساواة بين المواطنين والمنصوص عليه في الدستور، وأفضل من عبّر عن الامر البروفسور Joseph E. Stiglitz حامل جائزة Nobel للاقتصاد للعام 2001 اذ ذكر ان المصرف المركزي يدير مرفقاً عاماً لصالح الجمهور، ولا يملك صلاحية وسلطة التمييز بين المواطنين في التعامل، فقط السلطة التشريعية هي التي تملك هذا الحق او التنفيذية بتفويض من الاخيرة.

والامر الفاقع لا بل المستهجن ما اورده المجلس الدستوري في متن قراره كسبب اضافي لرفض الطعن بـ «ان التعديل المجرى ( في قانون الموازنة بذكر «التسعيرة التي يحددها مصرف لبنان» بدلا من «التسعيرة الرسمية التي يفرضها مصرف لبنان») هو تعديل يستلزمه الواقع النقدي والمالي للبلاد…» من دون اي ايضاح او شرح اضافي للامر…».

امر يثير بالذاكرة قراراً شهيراً صدر مؤخراً في 5 حزيران 2020 عن المحكمة الدستورية الالمانية في Karlsruhe طلبت فيه من المصرف المركزي الاوروبي BCE تبرير برنامجه للشراء المكثف لاصول القطاع العام في الاسواق الثانوية والمعروف بـ PSPP – Public Sector Purchase Programme الذي اطلقه عام 2015. فقد اعتبرت المحكمة ان المصرف لم يشرح كفاية السياسة النقدية التي انتهجها ولم يبين على الاخص تناسب البرنامج مع الاخطار الاقتصادية التي تتعرض لها منطقة الـ Euro، رافضة، اي محكمة Karlsruhe، في سابقة لا مثيل لها الانصياع لمحكمة العدل الاوروبية التي شرعت من جهتها برنامج الشراء بعد دراسة مضمونه لجهة توافقه مع وثيقة الاتحاد الاوروبي وقانون BCE لكن من دون اي غوص في سلامة مبررات البرنامج.

لقد عرضت امام قضاة المجلس الدستوري اللبناني فرصة ذهبية لان يضعوا أيديهم على اهم موضوع يهم المواطن والدولة والدستور والمجتمع والذي هو النقد وسعر صرفه. ليبينوا للجميع سبيل الهداية من هذا النفق المظلم الذي اوقعتهم فيه نصوص تشريعية مبتورة وتعاميم ادارية صدرت وتصدر خلافاً للدستور وللقانون بتخبط عشوائي يفاقم باستمرار المشاكل والاضطرابات. لكن للاسف لم يكن قضاة المجلس الدستوري على قدر المسؤولية واضاعوا فرصة ذهبية لاخذ المبادرة لانقاذ البلاد والعباد. تماماً كما فعل اقرانهم في مجلس شورى الدولة الذين يتقاعسون، وبتدخل رئاسي في حينه، عن البت باعتراض على تعميم من مصرف لبنان يفرض بدون مسوّغ شرعي «ليلرة» و»هيركات» على سحوبات المودعين من حساباتهم بالعملات الاجنبية.

قرار من محكمة العدل الأوروبية

الانحرافات والمخالفات تظهر بوضوح ان القيمين على امور استقرار سعر الصرف في مصرف لبنان لم يلتزموا بالقواعد الدستورية والقانونية التي ترعى الموضوع ما يؤسس لاثارة مسؤوليتهم ومسؤولية المصرف سندا للمبادئ العامة، والتي عبر عنها قرار صدر بتاريخ 13 ايلول 2022 عن محكمة العدل الاوروبية بقضية المصرف المركزي السلوفيني Banka Slovenje حيث عرضت الاخيرة في قرارها لمعيار مساءلة اي مصرف مركزي والعاملين باسمه فذكرت انه «الانحراف الخطير في الاداء عن مقتضيات الحيطة والدقة»،

Une banque centrale est tenue responsable lorsqu’elle-même ou les personnes qu’elle a habilitées à agir en son nom ont agi en méconnaissance grave de leur obligation de diligence.

وجزاء المساءلة قد يكون عملاً بالمادة 19 من قانون النقد والتسليف قرارات مسلكية وفي ما عناه الفصل الاول من الباب الثاني من قانون العقوبات. كما يمكن للمتضررين المطالبة بتعويض عادل عن الضرر الذي اصابهم من الانحراف بادارة سعر الصرف من خلال مجلس الشورى بوجه مصرف لبنان عملاً بالمادتين 60 و61 من قانون المجلس او حتى من خلال المحاكم المدنية بوجه القيمين المسؤولين لدى المصرف عملاً بالقواعد العامة التي تحكم المسؤولية التقصيرية والمنصوص عليها في المادة 121 من قانون الموجبات والعقود.

مصدرنداء الوطن - توفيق شمبور
المادة السابقةمصر على طريق لبنان؟… نعم ولا!
المقالة القادمةنحن على مفترق طرق… قبل الإنهيار الشامل