معركة الغاز تحتدم | روسيا للأوروبيين: الدفع بـ«الروبل» أو القطيعة

تمضي روسيا بثبات في قرارها فرْض عملتها الوطنية سبيلاً وحيداً لسداد «الدول غير الصديقة» مدفوعاتها للغاز الطبيعي. وهي سياسة يبدو أنها بدأت تأتي بنتائج، مع الإعلان عن موافقة أربع دول أوروبية على مطالب موسكو، في مقابل تمنُّع أخرى لا تزال تسعى وراء مصادر بديلة لفضّ الارتهان للغاز الروسي. لكن دون ذلك عوائق كثيرة، فضلاً عن الوقت الذي يستغرقه فكّ الارتباط هذا، في ما يؤشّر إمّا إلى التفاف دول الكتلة الأوروبية على العقوبات لتأمين هذه السلعة، أو الذهاب، في المواجهة مع الروس، إلى تحمُّل التبعات المرهقة لرفضها الدفع بالروبل

في خطوة تصعيدية غير مسبوقة، وردّاً على العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الكتلة الغربية على روسيا، أصدر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في 21 آذار الماضي، قراراً يقضي بتطوير آلية جديدة لسداد مدفوعات الغاز الطبيعي بالعملة المحلية لـ«لدول غير الصديقة». قرارٌ وضع الدول الأوروبية أمام معضلة يصعب حلّها في المدى القريب، ويُرجَّح أن يساهم في تفاقم أشدّ أزمة طاقة تشهدها أوروبا منذ سبعينيات القرن الماضي، بفعل اعتمادها الكبير على إمدادات الطاقة الروسية. مع هذا، تتوثّب دول الكتلة، أو بعضها، للعب دورها «الطبيعي» في الأزمة الأوكرانية، عبر «تقليل» الاعتماد على الغاز الروسي، وقول المفوضية إن هناك حاجة إلى ردّ منسّق على خطوة روسيا الأخيرة، القاضية بوقف إمدادات الغاز إلى كلٍّ من بولندا وبلغاريا، على خلفية رفضهما الدفع بالروبل، واعتبارها ابتزازاً يستدعي حزمة سادسة من العقوبات، على حدّ تأكيد رئيسة المفوضية، أوسولا فون دين لاين.

وفيما يحتدم الخلاف بين روسيا والدول الغربية بفعل الحرب الدائرة في أوكرانيا، وتوجيه أصابع الاتهام إلى موسكو حول نيّتها التمدُّد إلى مناطق نفوذ «حلف شمال الاطلسي» ودول شرق أوروبا، ثمّة علاقات اقتصادية – يصعب تجاوزها – تجمع الطرفين، وتشكّل الطاقة نقطة ارتكاز أساسية في تحديد طبيعتها وأنماطها. وتبيِّن الأرقام أن الدول الأوروبية في حالة تبعية لإمدادات الطاقة الروسية، وفي مقدِّمها الغاز الطبيعي (تغطّي روسيا حوالى 40% من حاجة السوق الأوروبية من الغاز، فضلاً عن أنها تمتلك آليات التحكّم في وقف توريده متى أرادت). وتُعدّ روسيا أغنى دولة من حيث احتياطات الغاز الطبيعي، بإجمالي 47 تريليون متر مكعب تكفي لـ50 سنة مقبلة، وهي أكبر مصدّر لهذه المادة بواقع 196 مليار متر مكعب سنوياً. وفي تحليل السياق، فإن تفحّص قرار بوتين يُظهر ثنائية أهدافه: الأوّل هو استخدام الغاز الروسي كسلاح في وجه العقوبات الاقتصاديّة الغربية على بلاده؛ ويتمثّل الثاني في الحفاظ على قيمة الروبل وتحويله إلى عملة صعبة في وجه هيمنة الدولار الأميركي.

وبالنسبة إلى إمدادات النقل إلى أوروبا، تسيطر شركة «غازبروم» – المملوكة من قِبَل الدولة – على احتياطات الغاز الطبيعي، وتورّدها عبر ثلاثة خطوط أنابيب رئيسة، هي:

– شبكة الإمدادات عبر الأراضي الأوكرانية، وتتفرّع منها خطوط براذرهود، يورنجوي يوماري اوزجورود، وبروغرس، تمتد من روسيا، مروراً بأوكرانيا، وصولاً إلى سلوفاكيا، ألمانيا، التشيك، النمسا، إيطاليا، المجر ورومانيا (نقلت هذة الخطوط ما يعادل 41.6 مليار متر مكعب من الغاز إلى أوروبا في عام 2021) .
– خطّ «نورد ستريم 1»، ويمرّ عبر بحر البلطيق حتى السواحل الألمانية، وينقل حوالى 55 مليار متر مكعب من الغاز إلى ألمانيا، الدنمارك، فرنسا، المملكة المتحدة وغيرها من الدول الأوروبية.
– خطّ أنابيب «يامال أوروبا» الذي يمتدّ من جزيرة يامال مروراً ببيلاروس وبولندا، وصولاً إلى ألمانيا، وتعادل طاقته 33 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي.

من الناحية القانونية، فإن آليات التسديد الجديدة غير جائزة، كونها تتعارض مع العقود المُبرمة، والتي تنصّ على دفع العملاء بالدولار واليورو والجنيه الإسترليني، وليس الروبل، وهو ما أظهرته أرقام شركة «غازبروم»: 58% من مبيعات الغاز إلى أوروبا عام 2021 كانت باليورو، و39% بالدولار، في حين شكّل الجنيه الإسترليني 3% فقط. غير أن مقاربة روسيا للمسألة تختلف، إذ إنها تبرّر اللجوء إلى هذا الخيار انطلاقاً من مبدأ أن الغرب فرض عقوبات اقتصادية عليها ولم يأخذ في الاعتبار تداعياتها السلبية الصخمة. وهنا، يصبح من حقّها الإقدام على أيّ قرار من شأنه أن يحفظ عملتها المحلية من الانهيار بعدما تراجعت قيمتها بنحو 40% منذ تاريخ فرض العقوبات. وبالفعل، تحسّن سعر الروبل بنسبة 4%، كما ارتفعت أسعار الغاز بنسبة 8% في أوروبا.
وفي حال رضخت الدول الأوروبية لمطالب موسكو، وهو أمرٌ جائز خصوصاً مع إيراد وكالة «بلومبرغ»، نقلاً عن مصدر في «غازبروم»، خبراً مفاده بأن أربعة من هذه البلدان سدّدت مدفوعاتها بالروبل، يُحتمل، لاحقاً، أن تتعدّى المسألة الغاز إلى سلع أخرى، وفق ما أعلنه الكرملين، وهو ما يؤشّر بدوره إلى محاولة روسيا الالتفاف على العقوبات المفروضة عليها، وإجبار الدول الغربية على إعادة النظر فيها. وفي سياق الإجراءات الهادفة إلى تحويل مدفوعات الغاز الروسي إلى الروبل، يتعيّن على «الدول غير الصديقة» فتح حسابات بالروبل في المصارف الروسية. ولدى تحليل هذا الإجراء، يتبيّن، وبالاستناد إلى معطيات المصرف المركزي الروسي، أن قيمة الصادرات الإجمالية لروسيا بلغت 489.8 مليار دولار عام 2021، تستحوذ صادرات الغاز منها على 61.8 مليار دولار، أي أن 12.61% من قيمة الصادرات تأتي من الغاز. وتشكّل حصة «الدول غير الصديقة» 70% من صادرات الغاز الروسي، ما يُرتِّب عليها تأمين ما يعادل 43.26 مليار دولار بالعملة الروسية. وفي حال التزامها قرار الدفع بالروبل، سيُفعّل عمل المصارف الروسية، وستجبر الدول التي فرضت أو وافقت على فرض العقوبات المالية على روسيا، على التعامل مجدّداً مع المؤسسات المالية الروسية، وهو الهدف الثالث الذي تسعى موسكو إلى تحقيقه.

وفيما أعلن الاتحاد الاوروبي ومجموعة «دول السبع» (ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، اليابان، بريطانيا، الولايات المتحدة وكندا) رفضهما تنفيذ قرار روسيا، تتزايد موافقات الدول على شراء الغاز الروسي بالروبل، الأمر الذي يثير تساؤلات حول احتمالية نجاح بوتين في تحقيق أهدافه. فقد أعلنت المجر، أخيراً، استعدادها الدفع بالروبل، وهو ما يضعها في خلاف مع نظرائها في الكتلة ممّن يعتبرون أن في ذلك خرقاً للعقود والتفافاً على العقوبات. وكانت سلوفاكيا قد وافقت في وقت سابق على التزامها بقرار بوتين، ثم ما لبثت أن تراجعت عن موقفها، معلنةً تضامنها مع بروكسل. كما أكدت الهند، من جهتها، عدم ممانعتها الدفع بالعملة الروسية.

ما تقدَّم، يقود إلى استنتاج مفاده بأن الدفع بالروبل سيؤدي إلى انقسام في مواقف الدول الأوروبية ما بين موافق ومعارض لآلية التسديد الجديدة، وهو مشهد بدأت ملامحه تتجلّى على الساحة الأوروبية، ويثير قلق الولايات المتحدة وحلفائها حول احتمال تشرذم وحدة القرار الأوروبي. فاستغناء أوروبا عن الغاز الروسي أشبه بالمهمّة المستحيلة، أقلّه في المدى المنظور، إذ من المرجّح أن تستغرق القارة عقداً كاملاً حتى تتمكّن من فكّ ارتباطها وتبعيتها لهذه السلعة. وقد أكدت الدول الأوروبية أنه في حال لم تتراجع روسيا عن قرارها، سيترتّب على ذلك تداعيات خطيرة، وهو ما دفع ألمانيا، مثلاً، إلى إعلان مستوى الإنذار المبكر لخطّة طوارئ الغاز. فعلياً، ثمة مساعٍ دؤوبة تقوم بها الولايات المتحدة وحلفاؤها في سبيل تأمين بدائل لإمدادات الغاز الروسي، وقد أُجريت محادثات مع كل من قطر، الجزائر، السعودية، ليبيا، النروج وهولندا بهدف زيادة طاقاتها الإنتاجية من الغاز. وبعيداً من مصادر توريد الغاز الدولية، تتمثّل الخيارت الأخرى المتاحة في استخدام الطاقة النووية والفحم الحجري لتوليد الطاقة، إلاّ أن هذا الخيار يُواجَه بمعارضة شديدة من قِبَل المنظمات العالمية التي تُعنى بالبيئة، نظراً إلى ما يسبّبه استخدامهما من أزمة احتباس حراري.

مصدرجريدة الأخبار - ريما نعمة
المادة السابقةفراس أبيض: لم أفعل شيئاً حتى الآن
المقالة القادمةإرتفاع الأسعار “يدق آخر مسمار” في “نعش” الكهرباء