موظفو “الدولة” المتمردون يخوضون معركة “الفساد الإداري”..عبر السوشال الميديا

موظفو الدولة في لبنان صيتهم “سابقهم”، إلا ان هذا “الصيت”، تخرقه “أعجوبة” بقاء موظفين أكفاء في الإدارة، مستعصين على عدوى الفساد التي تنخر المؤسسات، وكأن صمودها، بالحد الأدنى اليوم، من صمودهم.
هؤلاء، بعضهم ذهب أبعد من عدم التورط بالفساد، فقرر المواجهة، كاشفاً عن الممارسات والتجاوزات من الداخل، عبر وضع تلك الحقائق بين أيدي الرأي العام… هي مواجهة، كلفت بعض الموظفين، في القضاء أو الادارة، الفصل من العمل، فصعَّد بعضهم أكثر، متخذين من صفحاتهم عبر مواقع التواصل، مكاناً لكشف التجاوزات وخبايا الوزارات والمؤسسات العامة.

الحقوق المفقودة والهبات الضائعة

وكانت لوزارة التربية الحصة الأكبر من “التمرد” الوظيفيّ، ففي حين بات التعليم الرسمي لبنان “للمحظيين” من الطبقات المتوسطة والفقيرة، مع تزايد نسب التسرب المدرسي، هناك مبالغ ضخمة صرفت من قروض وهبات أتت بعد اللجوء السوري، أبرزها قرض البنك الدولي لمشروع S2R2 بكلفة 204 ملايين دولار، والذي تشوب كيفية صرفه، شبهات فساد.

تروي نسرين شاهين، المعلمة المتعاقدة في التعليم الرسمي، ورئيسة لجنة الأساتذة المتعاقدين، كيف تحولت من متعاقدة تطالب بتثبيتها في الملاك وزملائها، إلى عالمة بخبايا الوزارة وكاشفة لروائح الفساد فيها.

“بدأت القصة بعدم حصولنا على حقوقنا من سلسلة الرتب والرواتب الى حقنا في التثبيت في الملاك… وذلك حتى بعد سنوات من نضالنا في الشارع لتكريس الحقوق، الأمر الذي جعلنا نكتشف اسباب عدم نيلنا هذه الحقوق وهو الفساد الحاصل في وزارة التربية، والذي تضاعف بعد تدفق الهبات والقروض إبان النزوح السوري للبنان”، كما تقول، “وهنا باتت تتصعد مطالبنا اكثر فاكثر، فالمشكلة ليست في شحّ التمويل بل في الهدر والفساد، فهناك اموال وقروض وهبات تأتي للوزارة وتصرف في غير مبتغاها، فيحرم منها الأساتذة من متعاقدين وملاك”.

على الرغم من أهمية القطاع التربوي الرسمي، وبلوغ نسبة الاساتذة المتعاقدين فيه 70%، بقيت حقوقهم “معلقة” وبقيت الاعوام الدراسية ما بعد الأزمة مهددة، مع تصعيدهم بالاضراب المفتوح، الا ان الوزارة صمدت مفضلة التوصل لإعطائهم “فُتات الحقوق”، وكانت شاهين، على رأس تلك الإضرابات، حاملة قضية الاساتذة في الشارع والاعلام ومواقع التواصل.

نسأل شاهين التي ناصرت ثورة 17 تشرين، عما إذا كانت لمواقفها الثورية علاقة بالتضييق عليها وصولاً إلى فصلها بقرار من الوزير، لتوضح أن “كل اركان السلطة لا يستسيغونني، فأنا لا سقف لديّ وهم لا يريدون أحداً “راسه كبير”، فكيف بشخص يعتبرونه محرضاً للأساتذة وأرادوا أن يربّوا عبره الباقين؟ وهذا كلام سمعته من أشخاص نصحوني بخفض الصوت حفاظاً على وظيفتي، لكن من ظنوا أنهم قادرون على إسكاتي، كانوا مخطئين”.

وتربط شاهين قضية فصلها، بالمسار التصاعدي للأجواء القمعية في البلاد عموماً وبالوزارة خصوصاً، وتتهم الوزير عباس الحلبي بأنه “عراب كمّ الأفواه”، و”يحسب أن الوزارة مِلك خاص والأساتذة موظفين عنده”، وتضيف: “هو سبق أن حاول إسكاتي عبر اشتراط عدم وجودي ضيفة في البرامج التلفزيونية”.

الميديا كبديل من الإعلام التقليديّ؟

صحيح انه كانت لشاهين فرصة الاطلالة عبر الاعلام التقليدي مراراً للحديث عن قضايا الأساتذة، وهناك اعلاميون وصحافيون حملوا قضية المعلمين، “لكننا جميعاً نعرف أن غالبية المحطات مُسيطَر عليها سياسياً، وهذا ما جعلني ألجأ لصفحاتي في مواقع التواصل، لأصل عبرها للأساتذة وأهالي الطلبة خصوصاً، والرأي العام اللبناني عموماً”.

في مواقع التواصل، طرحت رئيسة لجنة الأساتذة المتعاقدين، التصويت، ليقرر الأساتذة بالأكثرية استمرار الإضراب المفتوح من عدمه، كما لم تكتفِ بالغوص في قضايا الأساتذة بل ذهبت للإضاءة على شبهات الفساد في الوزارة.

تقول: “لعبت الميديا دوراً كبيراً في معركتي، ليس في المنشورات وحسب، بل أيضاً بالبث المباشر، الذي من خلاله وضعتُ الرأي العام اللبناني في أجواء ما أعرفه من شبهات فساد، وقد مكّن تفاعل الناس مع منشوراتي، وصولها لآلاف المتلقّين”. وتضيف: “أي انسان يقول كلمة حرة، لا يمكن لأحد إسكاته، وهذا ما أكسبني ثقة الناس، بعدما وصلت قضيتي للرأي العام، المتضامن معي ضد قرار الوزير التعسفي”.

تؤكد شاهين: “معركتي لا تنحصر في راتب نسعى لتحسينه كأساتذة، بل هي قضية طالبت بها من موقع مسؤوليتي كرئيسة للجنة الأساتذة”. وتتابع: “كنت أعلم أن هناك خسارة ما في مشوار النضال، وكنت مستعدة للخسارة كما للمعركة، وما زلت أواجه، وأنا على بينة بأني صاحبة الحق، وسأرجع لعملي بينما مصير الوزير أن يرحل عن رأس الوزارة، فقرار فصلي تعسفي ومخالف بالشكل، إذ لا سلطة مباشرة للوزير عليّ، لكنه كتب القرار بنفسه حين فقد الأمل في كتابته وفق التدرج الوظيفيّ، وهو أراد به التشفي والانتقام، حيث قيل لي بالحرف الواحد: إنتي عم تكبري راس الأساتذة وتحرضيهن… فأرادوا تربيتك ليخاف بقية الاساتذة فتكونين درساً لهم”. وتضيف: “لكن الظلم الذي تعرضت له زاد الأساتذة حماسة ضد أجواء القمع والتعسف وانتهاك الحقوق، واليوم يتعرض أساتذة آخرون للمضايقات لرفعهم الصوت”.

“معركتي ليست شخصية”، تؤكد شاهين، بل “إنها للصالح العام، بدليل أنه لدى تأخير تبليغي بقرار فصلي بهدف المناورة، تسلمته فوراً، ولجأتُ للقضاء، فأنصفني، بدلالة أن معركتي مستمرة عبر صفحاتي، طالما ان القضية التي أحملها، للأساتذة المظلومين، تتطلب النضال، وأنا لن أعود للتعليم عبر الوزير، بل عبر القضاء الذي أنصفني بقرار عبر مجلس شورى الدولة، ضد قرار الوزير التعسفي بطردي”.

الواسطة تبقيك و”اللاطائفية” تطيّرك

كانت فترة التحاق سهام أنطون بالمركز التربوي، مليئة بالتحديات، إذ يخضع الموظفون والأساتذة الملحقون بالمركز التربوي للقمع والتهميش والتمييز بصورة متواصلة، حسبما تقول أنطون التي تشغل موقع رئيسة قسم اللغة العربية في المركز التربوي للبحوث والانماء، وحُرمت من التحاقها بالمركز بحجة “انتفاء الحاجة لخدماتها”.

حالة من التوتر المستمر عاشتها أنطون في المركز التربوي منذ التحاقها، “فالفساد والهدر المستشري في الإدارة العامّة يجعل العمل اليومي توترًا دائمًا حتّى للمستفيدين من هذا الهدر، فالتناتش سيّد الموقف دائمًا، وكل منهم يسعى للحفاظ على حصّته، ويخاف من تبدّل العهود والوزراء والمدراء العامّين”. تضيف: “حاولتُ من جهتي أن أصلح ما يمكن إصلاحه، لكن الإصلاح بدا شبه مستحيل”.

للمسألة أيضاً بُعد جوهري، يرتبط عضوياً بالتوظيفات العشوائية وإعلاء الزبائنية والمحاصصة والطائفية على الكفاءة، وهذا عامل حاسم في “الاستفراد” بموظف لا حزب يقود معركة لإبقائه.

في السياق، توضح أنطون “كل من لا تدعمه طائفة معيّنة يصبح فوراً مهمّشاً، وعرضة لانتهاك حقوقه، وكلّ من يبيّن الأخطاء يصبح متهماً فوراً ويعدّونه عدواً لهم، لذلك كان قرار إلغاء إلحاقي بالمركز التربوي مطروحًا على الطاولة بصورة دائمة، واليوم اتخذوا القرار بشكل نهائي على خلفيّة تصريح إعلامي لي، خلال تظاهرة للأساتذة أمام وزارة التربية، قلت فيه، أنّ وزير التربية يسوق الأساتذة بالعصا ويلتفّ عليهم بواسطة الهيئة الإداريّة لرابطة الأساتذة الثانوي، لينهوا إضرابهم ويعودوا إلى التعليم من دون الحصول على حقوقهم”.

المتمردون الصامتون: كثر؟

اللجوء إلى الإعلام، تعزوه أنطون أساساً إلى اليأس من الإدارة، سائلة: “عندما نشعر أنّ القانون لا يحمينا والهيئات الرقابيّة معطّلة، فماذا نفعل؟”، مشيرة الى ان “كثيرين مثلي في الإدارة يدفعون الثمن، ولا يجرأون على إعلان ما يحصل لهم، لا سيما أنّ القانون يمنع على الموظف الحكومي الحديث عن عمله لوسائل الإعلام”.

أنطون اليوم رفعت مستوى المعركة عبر صفحاتها في مواقع التواصل، فقررت كشف “سوء إدارة قرض S2R2 في المركز التربوي، لأنّه مع حصول المركز التربوي على القرض والهبات ارتفعت نسبة الهدر والتحاصص والفساد، ومع اضراب الأساتذة، أصبح السكوت عن الهدر جريمة، فمعركتي ليست شخصيّة مع أحد، بل معركتي هي الحدّ من الهدر في التربية”.

قيمة القرض 204 ملايين دولار، ثلثها خصص بالكامل للمركز التربوي بهدف تطوير المناهج وتنفيذ مشاريع تربوية متنوعة. أما ما تم تحقيقه مقارنة بهذا الرقم الهائل، فهو “تافه ورديء جداً”، وتصفه أنطون “بإنتاج اللا شيء”.

أنطون، وهي أستاذة في التعليم الثانوي، حاربت أيضاً على جبهة الأساتذة. تقول: “كنت دائمًا ممثلة عن زملائي في رابطة التعليم الثانوي. وحاولت أن أدافع عن حقوقهم، فطالبت بالحدّ من التمييز والتحاصص، وبمشاريع تربوية فاعلة ذات أثر تربوي حقيقي”. لتضاف اليوم لمسيرتها في رفع الصوت، فيديوهات توضيحية حول الهدر الحاصل في المركز التربوي، “فكنت وما زلت أخجل من السكوت عن كمّ الهدر فيما زملائي في الشارع والمدرسة الرسمية تغلق أبوابها”.

وتقول: “لجأ الوزير إلى إجراءات عقابيّة تعسفيّة بحقي بلا مسوغ.. وهو المسيطر الفعلي على المركز التربوي اليوم، فيما رئيسة المركز تخضع تمامًا له، وهذه الأجواء مثلا، لم نكن نراها مع الوزير طارق المجذوب”.

صوت الضمير الحي

ويستغل القائمون على الفساد في الوزارات والمؤسسات العامة، عدم إمكانية تصريح الموظف العام للإعلام وفق القانون، للتمادي في تجاوزاتهم. لكن، وفي بلد مثل لبنان، يصبح إعلاء الصوت من داخل المؤسسات، أشبه بخِراك الضمير الحي، في إدارات تُنازِع للبقاء، بالحد الأدنى من الاستمرارية، وبالحد الأقصى من الفساد!

 

مصدرالمدن - فتات عيّاد
المادة السابقةفي عزّ الحشرة: سلامة يقايض المصارف بقراراته
المقالة القادمةالمؤسسات والمكاتب السياحية متفائلة: بانتظار 1.5 مليون سائح