هل يدفع القطاع العام فاتورة “الإصلاح”؟

تبدي بعض القوى السياسية استعداداً للمسّ برواتب موظفي القطاع العام، مهوّلة بأن تجنب “الانهيار” يستدعي إصلاحات موجعة لخفض العجز في الخزينة وفكّ أسر قروض «سيدر». هذا التهويل قد ينجح في بلد يتمتع بحسّ عالٍ من «الشعبوية» وسط غياب المعايير التي تحدّد آلية توزيع فاتورة الإصلاح على فئات المجتمع. المساس برواتب القطاع العام يكرّس السلوك السابق القائم على إلقاء الحصّة الأكبر من العبء على الفئات الأكثر تضرراً من السياسات التي أوصلت إلى الانهيار

بمعزل عن المواقف المسبقة من سلسلة الرتب والرواتب والإصلاحات التي تعهد لبنان بتطبيقها في مؤتمر «سيدر»، فإن المسّ برواتب موظفي القطاع العام لخفض العجز المالي، ليس سوى سلوك نمطي يفرضه صندوق النقد الدولي في الدول التي تُخضَع لبرامجه «الإنقاذية» بعد عجزها عن سداد التزاماتها تجاه الدائنين. قوى النفوذ المالي والسياسي في لبنان تتعامل مع هذا الأمر بازدواجية لا مبرّر لها، سوى سعيها لإنقاذ ثرواتها؛ فهي، من جهة، تعلن التزامها تجاه الدائنين حتى آخر العمر، وحتى آخر فلس في الخزينة، ومن جهة أخرى تحاول إخضاع لبنان لبرنامج شبيه ببرامج صندوق النقد، مستخدمة عوامل القلق والتخويف والتهويل. هكذا، جرى الربط بين الانهيار الذي يطيح رواتب الأجراء والموظفين في القطاعين العام والخاص، وبين الإنقاذ الذي يكبّد هؤلاء الأجراء القسم الأكبر من الفاتورة. وشكّل هذا الربط مبرّراً لقوى السلطة، للحديث عن أزمة القطاع العام غير المنتج، ولتجاهل الخيارات البديلة المتاحة في بلد بات خطّ الفقر الأعلى فيه لأسرة مكوّنة من أربعة أفراد يبلغ 1.5 مليون ليرة شهرياً (الذين يعيشون بـ8 دولارات يومياً)، أي إن كل أسرة تعتاش من دخل بهذه القيمة وما دون تعدّ فقيرة بحسب التصحيحات التي قدّمتها مؤسسة الاستشارات لإدارة الإحصاء المركزي.

على أي حال، يتطلب المساس بسلسلة الرتب والرواتب إقرار قانون في مجلس النواب. لكن الخشية أن «السلسلة» بحدّ ذاتها، أي التعديلات التي أقرّت في مجلس النواب في 2017 على سلاسل رواتب ورتب موظفي القطاع العام بما قيمته 2200 مليار ليرة تقريباً، ليست هي الهدف الفعلي. بل إن المستهدف هو أصل الراتب وملحقاته ومعاشات التقاعد. وبحسب خبراء اقتصاديين يمثّلون الأحزاب الكبرى في لبنان، فإن ما هو مطروح يراوح بين إجراء خفوضات على لواحق الأجر في الإدارات العامة والأجهزة الأمنية والمؤسسات والمصالح المستقلة، وبين الرفض التام لأي مساس بهذه الرواتب واللواحق قبل استنفاد الإجراءات المتاحة.

يثير هذا الأمر تساؤلات كثيرة عن مواقف القوى السياسية التي اتفقت في المجلس الاقتصادي الاجتماعي على ورقة عمل تتضمن أولوية تقليص عجز الكهرباء وخفض خدمة الدين قبل الحديث عن إصلاح نظام التقاعد والتقديمات الاجتماعية. فهل لا تزال هذه القوى على الموقف نفسه، أم أنها بدأت تعدّل مواقفها؟ وهل هناك جدوى مالية واجتماعية وسياسية من خفض السلسلة أو تعليقها أو تأجيل تطبيقها أو تأجيل تطبيق قسم منها؟ علماً أن مواقف بعض الأطراف من هذه المسألة معروفة للجميع. إذ يقف رئيس الحكومة سعد الحريري، مثلاً، ضدّ القطاع العام، ويرى أن خفض كلفة هذا القطاع من الموازنة أولوية حتى يتاح إنقاذ المصارف والشركات الكبرى من هذه الفاتورة. «الأخبار» اتصلت ببعض هؤلاء الخبراء، فرفض بعضهم التعليق، فيما رفض آخرون التحدّث بصفتهم التمثيلية لأحزابهم، فيما أجاب البعض بوضوح.

قرداحي: الخسارة على الجميع

شربل قرداحي (التيار الوطني الحر) لفت إلى أن التيار وافق على التصويت لمصلحة إقرار سلسلة الرتب والرواتب، «لكن تبيّن أن المشكلة لا تكمن في جوهر المعاشات، بل في التقديمات غير المحقة حولها. فعلى هامش أساس الراتب نشأت مع الزمن مجموعة تكاليف من ساعات إضافية ومنح وغيرها، وجاء فوقها التوظيف العشوائي ليزيد الأمر سوءاً، حتى بتنا أمام مسؤولية وطنية: كيف نستمرّ في دفع النفقات والرواتب فيما صرنا في موقع يحتم النقاش في الحفاظ على الوظيفة بدلاً من النقاش في الراتب؟

كل أسرة يبلغ دخلها 1.5 مليون ليرة تصنّف فقيرة

إذ يمكن أن يخسر الموظف كثيراً بفرق سعر صرف الليرة لو تطوّرت الأمور». يقر قرداحي بأن لا جدوى سياسية أو اجتماعية من طرح مسألة السلسلة أو ما يسمى لواحق الأجر، لأن كلاً من الأطراف السياسية لديه مكوّنات اجتماعية موظفة في القطاع العام، «لكن المسألة باتت مرتبطة أكثر بجدوى المسؤولية، وهو أمر كان رئيس الحزب جبران باسيل واضحاً بشأنه، إذ إن الطرح لم يقتصر على ملف الرواتب والأجور، بل طرح أيضاً مسألة الكهرباء وفوائد الدين العام أيضاً». في النهاية «إذا لم تطبق هذه الأولويات سيخسر الجميع».

وزني: السلسلة تفجّر ثورة

غازي وزني (شارك في المجلس الاقتصادي الاجتماعي ممثلاً لحركة أمل) شدّد على أن البحث في موضوع السلسلة «ليس وارداً أبداً، لا لجهة إعادة النظر فيها أو بأرقامها. ومن يتحدث عن هذا الأمر أطراف سياسية أخرى». وبرأيه، «إذا خفضنا الرواتب والأجور في القطاع العام، عندها لا يعود ممكناً الحديث بجديّة عن مساهمة المصارف في تسديد فاتورة الإصلاح، فضلاً عن أن أي كلام عن خفض أو تعليق أو تأجيل تطبيق السلسلة سيؤدي إلى ثورة اجتماعية». ولفت إلى أن هناك الكثير من البنود التي يمكن خفضها في الموازنة العامة: «هناك بنود بقيمة إجمالية تصل إلى 3500 مليار ليرة قابلة للخفض والاقتطاع، فلماذا الحديث عن رواتب القطاع العام؟ الأولوية أن تخفض هذه البنود ومنها العطاءات والمساهمات للجمعيات، وتعويضات النقل المؤقت، والمحروقات، واحتياط الموازنة العام، والإيجارات، والإعلانات والمطبوعات… ويضاف إلى ذلك، أن مساهمة المصارف بتوظيف 6 مليارات دولار في الدين العام بفائدة صفر في المئة ستوفّر على الدولة 535 مليار ليرة سنوياً. كذلك يمكن إقرار ضريبة على المودعين في المصارف بمعدل 5% ما يحقق 450 مليار ليرة».

بدارو: توزيع الآلام

روي بدارو (يمثّل حزب القوات اللبنانية في المجلس الاقتصادي الاجتماعي) رفض أن يصرّح بصفة حزبية، مفضلاً استعمال صفة الخبير، علماً بأن موقفه يتقاطع مع موقف نائب رئيس الحكومة غسان حاصباني الذي تحدث عن إجراءات موجعة وقرارات صارمة. بدارو أشار إلى أن المسألة ليست في زيادة الرواتب لبعض الفئات في القطاع العام، بل في المعاشات التقاعدية التي «لا يمكن أحداً أن يحملها». ينطلق من توصيف لهذا الأمر بالإشارة إلى ما يسمّيه القضية المركزية: «توزيع الآلام». ففي رأيه، المرحلة السابقة حفلت بالبذح والفساد والهدر، واليوم أتى وقت التسديد. «المشكلة لا تكمن في السلسلة بحدّ ذاتها، بل في الأعداد الهائلة من الموظفين في القطاع العام. فمن أصل 1.2 مليون أجير في لبنان هناك أكثر من 400 ألف موظف في القطاع العام يستفيدون من تقديمات واسعة من الدولة بشكل مباشر وغير مباشر. ليس لدى القوات موقف حاسم تجاه السلسلة، لكننا غير قادرين على الاستمرار في هذا المسار».

بصبوص: توحيد الفوارق

يؤكد محمد بصبوص (الحزب التقدمي الاشتراكي) أن موقف الحزب «كان واضحاً وصريحاً ضدّ المسّ بسلسلة الرتب والرواتب، وهذا الأمر عبّر عنه رئيس الحزب قبل أيام بشكل واضح جداً». إلا أنه «في وقت ما بين إقرار السلسلة وبين التسريبات التي تناولت السلسلة تسنى لنا بلورة الفرق بين الإدارة العامة والمؤسسات العامة.

هناك خشية ألّا تكون «السلسلة» مستهدفة، بل أصل الراتب وملحقاته ومعاشات التقاعد

تبيّن لنا أن المدير العام في الوزارة يتقاضى أربعة أو خمسة ملايين ليرة، وفي المؤسسات العامة يصل راتبه إلى 15 ألف دولار. وتبيّن أيضاً، على سبيل المثال، أن بعض رؤساء الدوائر في مجلس الإنماء والإعمار، يتقاضون مع الزوائد من ساعات إضافية وسواها، ما يصل إلى 15 مليون ليرة، بينما لا يتجاوز راتب رئيس دائرة في أي إدارة ثلاثة ملايين ليرة. لذا، المطلوب توحيد الرواتب بين الإدارة العامة والمؤسسات العامة. هذا الموضوع لا علاقة له بالسلسلة. في الجوهر، يجب إعادة النظر بالرتب والرواتب والفئات بين الإدارة العامة والمؤسسات العامة بعدما تبيّن وجود فوارق شاسعة في الفئتين الأولى والثانية، وبين الإدارة العامة والمؤسسات العامة. هذا الطرح من ضمن سلّة إجراءات يجب أن تتخذ، ولكن بداية يجب ضبط العجز في الكهرباء».

بواسطةمحمد وهبي
مصدرالاخبار
المادة السابقةكيف “يتسلّل” الحديد الإيراني الى لبنان
المقالة القادمةأوجيرو تضلّل لجنة المال