يشتري الدولارات ثم يضخّها… ثم يشتريها مجدداً: كازينو مصرف لبنان

المنطق الوحيد الذي يحكم تقلّبات سعر الصرف هو «الكازينو». مصرف لبنان هو «الكازينو». هو من يقرّر أي لاعب يربح وأي لاعب يخسر. هذا الكازينو قرّر، في الفترة الأخيرة، أن يضخّ دولارات ورقية في السوق. الضخّ يتم عبر المصارف، ومنها للمودعين مباشرة، بعد حسم قيمة الخسارة اللاحقة بودائعهم. إذ بات في إمكان هؤلاء «سحب» دولاراتهم العالقة في المصارف على سعر 8000 ليرة، وشراء الدولارات الورقية على السعر الوسطي المسجّل على منصّة «صيرفة» في اليوم السابق. بهذه العملية صار كل «دولار مصرفي» يساوي 33 سنتاً مدفوعة نقداً، بدلاً من 27 سنتاً. وبهذه العملية، أيضاً، تحصل المصارف من مصرف لبنان على حصّتها الشهرية بالدولارات الورقية بدلاً من الليرات الورقية وفق سعر المنصّة أيضاً.

جرى إيهام المودعين – اللاعبين في الكازينو – بأنهم يربحون من كل دولار يُسحب من المصارف نحو 6 سنتات، فيما هم في الواقع يخسرون، بعدما خسروا، أصلاً، 67% من قيمة دولاراتهم المودعة في المصارف. لكنهم رغم ذلك يتهافتون لتحصيل الفرق باعتباره ربحاً لهم! قد يكون مفهوماً أن يعيش موظفو القطاع العام حالة التهافت هذه لتعويض الخسائر في مداخيلهم الثابتة بالليرة والتي لم تجرؤ الحكومة على تصحيحها بعد، لكن اللافت أن يتهافت المودعون من أجل بضعة سنتات إضافية وضمن سقوف سحب منخفضة، وكأنهم لا يعلمون بأن ما يعطيهم إياه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بيده اليمنى، يأخذه منهم بأياد كثيرة أخرى.

في المحصّلة، يدفع المقيمون في لبنان ضريبة التضخّم التي فرضها سلامة عليهم بغطاء المنظومة السياسية. سلامة، مدير كازينو مصرف لبنان، قرّر أن تكون الخسارة ضمن إطارين: تضخّم الأسعار التي تأكل قيمة المدخرات والمداخيل في الوقت نفسه، ومسار الهيركات على الودائع عند سحبها من المصارف مباشرة. القلّة التي تجنّبت هذه الخسارة هي الجهات التي قرّر سلامة وسائر المصارف وشركاؤهم في النظام المالي أن يجنّبها الخسائر. هذه الجهة ينضوي فيها نافذون سياسيون، أصحاب مصارف، رجال أعمال، كبار المودعين، موظفون في القطاع العام، موظفون في مصرف لبنان والمصارف… هؤلاء أُتيح لهم الهروب من مسار «الهيركات» المباشر رغم أنهم أصيبوا بخسائر التضخّم وإن كانت لديهم قدرة واسعة على احتمالها بعد كل ما راكموه من أرباح على مدى عقود، مستفيدين من فجوة اللامساواة في الدخل والثروة، وبكون النظام المالي كان يعمل لمصلحتهم.

بعد الانهيار، فقد تحوّل الكازينو نحو نشاط مقنّع لإدارة عملية التوزيع التي باتت محصورة بالدعم في ظل إفلاس الموازنة وعدم كفايتها لتلبية الرواتب والأجور. وبقي للكازينو نشاط يتعلق بعمليات مكتومة لتحويل الأموال التي يملكها النافذون إلى الخارج. لكن فجأة، قرّر كازينو مصرف لبنان أن يقدّم لرواده لعبة جديدة يوهمهم فيها بالربح رغم انكشاف ألاعيبه السابقة كلها! بتعميم واحد ابتدع لعبة «صيرفة». وعلى هذه المنصّة، أدرج كل العمليات التي يقدر أن يجمعها عبر المصارف والصرافين والمؤسسات المالية الأخرى مثل OMT وسواها، ما أدّى مباشرة إلى نفخ حجم العمليات على هذه المنصّة من مليوني دولار يومياً إلى 14 مليون دولار. كان يفترض بهذه المنصّة أن تكون نقطة انطلاق لتوحيد سعر الصرف وأن يُتاح لها لاحقاً لتعبّر عن سعر الصرف الفعلي في السوق الحرّة، لكن مع التعميم 161، أصبح بإمكان المودعين الحصول على هامش إضافي من الدولارات العالقة في المصارف يبلغ 25%. اعتبروا أن هذا الهامش هو ربح، فيما هو جزء بسيط من أصل المبلغ.

وما تبيّن، بحسب المعلومات، أن اللعبة تبدأ في كازينو مصرف لبنان وتنتهي هناك أيضاً. فالمصرف المركزي للبنان يمنح المصارف حصّتها من الليرات الورقية بالدولارات، والمودع بحسب التعميم 161 يستفيد من سحب هذه الدولارات على سعر المنصّة، ويبيعها للصرافين لتحصيل الفرق (مقابل كل 1000 دولار تُسحب من المصرف وفق سعر 8000 ليرة (8 ملايين ليرة) يحصل المودع على 355 دولاراً ورقياً يبيعها للصرافين بقيمة بلغت أول من أمس 10.6 مليون ليرة، أي أن اللعبة تمنحه أكثر من مليونين ونصف مليون ليرة). وتكتمل الحلقة بشراء مصرف لبنان الدولارات من الصرافين ومن باقي المؤسسات المالية ولا سيما OMT ليضخها في السوق وفق آلية التعميم 161 ثم يشتريها على منصّة «صيرفة»؟ بأي سعر يشتري مصرف لبنان هذه الدولارات، وما هي كلفة ضخّها في السوق؟ ليست هناك شفافية في منصّة «صيرفة» ليكون بالإمكان معرفة حجم الخسائر التي ترتبت على مصرف لبنان.

لكن بالإضافة إلى هذه الخسائر، تنتج من ضخّ هذه الأموال في السوق خسائر إضافية تتعلق بتغذية الطلب على الدولار، وبتضخّم الأسعار. هنا نعود إلى المسار الأول لتوزيع الخسائر. المساران مرتبطان. فمحاولة امتصاص الليرة لم تنتج سوى ارتفاع في سعر الدولار وتضخم أكبر في الأسعار يفرض المزيد من الخسائر على كل المجتمع. الكازينو يربح دائماً.

مصدرجريدة الأخبار - محمد وهبة
المادة السابقةحمية رفض تخصيص وزارة الاشغال بـ40 مليار ليرة بموازنة 2022: لرفعها إلى 750 مليار ليرة
المقالة القادمةسلامة يستكمل سيناريو دفن التدقيق الجنائي