في مقدّمة كتابه “العقد الاجتماعي”، الذي تحوّل إلى إنجيل الثورة الفرنسيّة بعد أقل من ثلاثة عقود من نشره، يستبق جان جاك روسّو سؤالًا سيوجّه إليه: هل هو أمير أو مشترع حتّى يكتب في السياسة؟ يجيب روسّو نفسه فورًا، كلا. ولذا هو يكتب عن السياسة. فلو كان أميرًا أو مشترعًا لما أضاع وقته في قول ما يجب أن يصنع، بل يصنع ذلك أو يسكت.
لم تقتصر أهميّة تلك العبارة على الإشارة إلى أهميّة تناول الشأن العام، ولو لم يكن المرء صاحب قرار. بل كان المُراد أيضًا التصويب على أصحاب القرار الذين ينظرون في ما يُفترض أن يكون عليه الحال، بدل أن يصلحوا الحال بأنفسهم.. أو يريحوا الناس من أصواتهم. من رحم تلك الأفكار، ولدت الثورة التي أطاحت بأعتى معاقل الملكيّة والأرستقراطيّة الأوروبيّة، في فرنسا.
الجميع تواطأ ضد مشروع إعادة الهيكلة
العودة إلى مقولة روسّو هنا، مناسبتها كل الضجيج الذي أفضى إلى الإطاحة بالنقاش في مشروع إعادة هيكلة المصارف، وفقًا لتعليمات جمعية المصارف الشهيرة، التي تم تعميمها بشكل مكتوب على القيادات السياسيّة.
أصحاب القرار من مسؤولين وقوى سياسيّة وحزبيّة، الذين رددوا أهازيج حماية الودائع عند الإطاحة بمشروع إعادة الهيكلة، عوضًا عن تقويم المشروع ومناقشته، هم أنفسهم من كان يفترض أن يتحمّلوا مسؤوليّة الحل طوال السنوات الماضية، بدل التنظير فيه. بل وكثير من هؤلاء كانوا من المسؤولين عن صياغة مشروع إعادة الهيكلة نفسه، قبل الانقلاب عليه والتملّص منه. كان على هؤلاء فعلًا، كما قال روسّو، أن يصنعوا ما يقولون في العلن.. أو أن يصمتوا ويرحلوا.
في كل تلك المعمعة، تُرك سعادة الشامي وحيدًا، بعدما ذيّل بتوقيعه المراسلة التي أحالت مشروع إعادة الهيكلة إلى الأمانة العامّة لمجلس الوزراء. تبرّأ الجميع من مسؤوليّة مناقشة القانون وتعديله، وتنصّل البعض من مسؤوليّته في صياغة مسودّته الأولى، وتُركت الساحة للشعارات الشعبويّة.
وفي النهاية، كان المستفيد النهائي اللوبي المصرفي، الذي أخذ ما يريده: ضرب أي محاولة لإعادة الهيكلة.
المصرف المركزي ينقلب على المشروع
في العلن، تملّص الحاكم بالإنابة وسيم منصوري من مشروع إعادة الهيكلة. بل وأشار إلى أنّ دوره اقتصر على إبداء الرأي في بعض جوانب القانون، من دون التورّط بما هو أبعد من ذلك. غير أنّ العارفين بدهاليز المصرف، ودوره في صياغة مشروع القانون، يتحدثون عن قصّة مختلفة.
فالمصرف المركزي لعب دورًا مركزيًا في صياغة البنود المتعلّقة بفرز الودائع المؤهلة والودائع غير المؤهلة، كما لعب الدور الأساسي في تعريف الودائع غير المشروعة. وكل الأفكار المتعلّقة بالرسملة الداخليّة، أي تحويل بعض الودائع إلى أسهم في المصارف، وتعويض الودائع بسندات صفريّة، بالإضافة إلى آليّات تقاسم كلفة سداد الودائع بين المصرف المركزي والمصارف، جاءت من بنات أفكار مصرف لبنان. أمّا لجنة الرقابة على المصارف، فكانت حاضرة في جميع تفاصيل القانون، إلى جانب المديريّات المختصّة داخل مصرف لبنان.
ثمّة من يربط تملّص منصوري من مشروع القانون بلقاء جمعه بـ “بمرجعيّته” السياسيّة قبل أسبوع ويومين، إذ انقلب موقف منصوري في العلن من القانون بمجرّد خروجه من ذلك الاجتماع. وثمّة من يعتقد أن منصوري لم يكن جادًا منذ البداية في الدفاع عن مشروع القانون، الذي يحمل ما يكفي من بنود لإثارة نقمة النخبتين الماليّة والسياسيّة. غير أن الأكيد هو أنّ الشامي تلقى طعنة في الظهر من جانب مصرف لبنان، بعدما بدا أنّ مشروع إعادة الهيكلة بأسره هو “مشروع سعادة الشامي”، في حين أن كل زوايا مسودّة مشروع القانون كانت تحمل بصمات المصرف المركزي.
على المقلب الآخر، هناك من ينقل عن رئيسة لجنة الرقابة على المصارف مايا دبّاغ عدم استعدادها لتحمّل أعباء الدفاع عن هذا المشروع، في ظل الهجمة الشعبويّة التي يتعرّض لها، خصوصًا أنّها –وبخلاف منصوري- لا تملك “غطاءً سياسيًا” يكفل حمايتها. وعلى أي حال، من المهم الإشارة إلى أن دور دبّاغ تخطى خلال الفترة الماضية الجانب التقني المرتبط بالرقابة على المصارف، إذ ساهمت لجنتها بصياغة جوانب أساسيّة من الخطّة الماليّة للحكومة، والتي تم على أساسها صياغة مسودّة مشروع قانون إعادة الهيكلة.
مسؤوليّات المصرف المركزي
على هذا النحو، بات مصرف لبنان بمنأى عن تداعيات الهجمة التي قادها اللوبي المصرفي، ضد مشروع إعادة الهيكلة. مع الإشارة إلى أنّ المصرف المركزي –وبمعزل عن وجود القانون من عدمه- هو الوصي الأساسي على القطاع المصرفي وأزمته، بموجب التشريعات المتاحة أساسًا. وهذا ما يجعل المصرف مسؤولًا عن ترجمة شعارات حماية حقوق المودعين، التي يتم رفعها، ولو باستعمال الأدوات القانونيّة الموجودة بين يديه اليوم، التي يمكن أن تساهم في تسهيل الحلول المطلوبة (وضمن الإمكانات المتاحة طبعًا).
فهل قام منصوري مثلًا بتفعيل مسار تدقيق ميزانيّات أكبر 14 مصرفًا، المنصوص عنه في التفاهم مع صندوق النقد الدولي؟ وهل مهّد الطريق لإعادة الهيكلة بإعادة تقييم الموجودات المصرفيّة المتاحة بشكل مفصّل؟ وهل صنّف المصارف وفقًا لقدرتها على سداد الدفعات الشهريّة، ليتم على هذا الأساس صياغة مشروع إعادة الهيكلة؟
لم يفعل أي خطوة من تلك الخطوات حتمًا. لقد تملّص المصرف من مسؤوليّته في التمهيد لإعادة الهيكلة أولًا، ومن مسؤوليّته في صياغة مشروع القانون ثانيًا. وبات الحاكم بالإنابة أحد هؤلاء المسؤولين الذين ينظرون في ما يجب أن يكون عليه الحال، بدل أن يفعل ما يقوله أو يبتعد عن الضوضاء.
الوزراء والغدر
في خضم الهجمة الإعلاميّة المصرفيّة ضد مشروع قانون إعادة الهيكلة، لفت الأنظار وزير الاقتصاد أمين سلام، الذي أعلن تقدّمه باعتراض إلى مجلس الوزراء رفضًا لمشروع القانون الذي “يُضعف الثقة بالنظام الاقتصادي والمالي اللبناني”. ولأن الوزير لا يحب أن يفقد لبنان هذه الثقة، أعلن أنّه لن يقف مكتوف الأيدي بينما “تتعرّض أموال الناس للخطر، وتنهار أكثر مصداقيّة نظامنا الاقتصادي والمالي”.
من يرفع هذه الشعارات، هو أحد الوزراء المسؤولين بشكل مباشر عن خطّة التعافي المالي، وعن مسار التفاوض مع صندوق النقد الدولي. أي بصورة أوضح: ما يطعن به أمين سلام هو خطّة كانت من صلب مسؤوليّاته طوال الفترة الماضية، بل وكان سلام نفسه من المطلعين على مسارها وتفاصيلها. ومرّة جديدة، كانت سهام سلام طعنة في الظهر من داخل البيت، بعدما نأى وزير الاقتصاد بنفسه عن الخطّة الماليّة التي تندرج ضمن مهمامه كوزير اقتصاد.
وإذا ما افترضنا أنّ هناك ما شغل سلام عن متابعة هذه الخطّة، فمن يخاطب وزير الاقتصاد في حديثه عن التصدّي لإضعاف الثقة بالنظام المالي؟ وعن أي ثقة يتحدّث أصلًا؟ ومن كان المسؤول عن إدارة الأزمة طوال الفترة الماضية إذًا؟ مجددًا: كان الأحرى بوزير الاقتصاد أن يفعل، أو أن يترك المسؤوليّة لمن بإمكانه أن يفعل.
وعلى النحو نفسه، يمكن مقاربة ردود سائر الوزراء الذين رفعوا الشعارات الشعبويّة في وجه مشروع إعادة الهيكلة، عوضًا عن تحمّل مسؤولياتهم في مناقشة مشروع القانون وتقويمه، تمامًا كما يفرض عليهم واجبهم كوزراء في حكومة متضامنة. ففي الخلاصة، بات اللبنانيون أمام حكومة يكتفي أعضاؤها برفع الشعارات، تمامًا كما تفعل في العادة المعارضة في أي برلمان. وهذا الحال، يصب حتمًا لمصلحة من لا يريد مناقشة إعادة هيكلة أصلًا، أي النخب المصرفيّة والسياسيّة التي توجّست من فكرة توزيع الخسائر بقانون ينظّم مسار التعافي المالي.
بين انقلاب مصرف لبنان، وتملّص وزير الاقتصاد وسائر الوزراء، وزئبقيّة رئيس الحكومة نفسه، تتم هندسة الانقلاب على المعالجات المطلوبة للأزمة المصرفية. وهذا يتكامل حتمًا مع خريطة الطريق المكتوبة التي وضعتها المصارف للسياسيين، والتي قدّمت الطرح البديل: عدم المساس بالرساميل، والعودة للاقتطاع من السحوبات المصرفيّة بأسعار الصرف المجحفة، ورفض تمييز الودائع ما بين ودائع مشروعة وودائع غير مشروعة، وإدخال المصارف كشريك مقرّر في عمليّة إعادة الهيكلة. أمّا الخسائر، ومعظم إلتزامات المصارف للمودعين، فتُحال إلى مبدأ مسؤوليّة الدولة: أي تحويل الودائع إلى دين سيادي لن يُسدد يومًا.
بهذا الشكل، وبدل تقويم وتصحيح مشروع إعادة الهيكلة، تُرك سعادة الشامي حاملًا المشروع بمفرده ليسقط المشروع، ولتذهب البلاد نحو السيناريو الكارثي.