هناك فجوة بنسبة 50 في المئة بين الطعام المُنتَج اليوم وما سنحتاجه بحلول عام 2050.. والمعادلة التي على العالم حلها هي: كيف يمكن زيادة الإنتاج بما يكفي لإطعام سكان العالم، دون استنزاف الموارد الطبيعية والأراضي الزراعية.
أزمة الغذاء التي يشهدها العالم أزمة مركبة، جانب منها عابر، مثل وباء كورونا الذي ضرب العالم عام 2020 والحرب في أوكرانيا وما نجم عنها من أزمة في الطاقة والنقل، ورغم ما تسببت به مثل هذه الأحداث من معاناة للبشر، إلّا أن تأثيراتها عابرة.
المشكلة الأكبر التي ترافق البشرية وتتنامى بمرور الزمن تتمثل في عاملين: الأول تزايد عدد السكان، والثاني عامل المناخ والبيئة.
لا يمكن أن يذكر العامل السكاني دون ذكر عالم الاقتصاد الإنجليزي توماس روبرت مالتوس الذي قال إن عدد السكان يتضاعف مرة كل 25 عاماً، وهو ما لا يستطيع الإنتاج الزراعي (الغذائي) مواكبته.
حين وضع مالتوس نظريته، عام 1798، كان عدد سكان الأرض مليار نسمة، اليوم يبلغ عدد سكان الأرض 8 مليارات نسمة.
هذا رغم مبادرة بعض الدول إلى اتخاذ إجراءات للسيطرة على الإنجاب، أحيانا بقوة القانون، وأحيانا أخرى بنشر الوعي. من دون تلك الجهود كان عدد سكان العالم اليوم 20 مليارا أو أكثر.
إلى وقت قرب جدا استطاع العالم أن يوفر ما يكفي لإطعام السكان اعتمادا على تطوير وسائل الإنتاج الزراعي. ولكن هذا النجاح مثل عبئا هائلا على المناخ والبيئة.
الحديث اليوم عن ظواهر الطقس الناجمة عن تغير المناخ، لاسيما العواصف الشديدة والجفاف وموجات الحرارة، يحتل العناوين الأولى رغم الحرب الأوكرانية وتهديدات الحرب الباردة الجديدة بين الصين والولايات المتحدة.
المعادلة التي على العالم حلها هي: كيف يمكن زيادة الإنتاج بما يكفي لإطعام سكان العالم، دون زيادة في استنزاف الموارد الطبيعية والأراضي الزراعية الحالية؟ هذا التساؤل كان محور تقرير أعده مؤخرا معهد الموارد العالمية.
وفي ذلك، تقول جانيت رانجاناثان خبيرة التغذية في المعهد والمشاركة في إعداد التقرير إن “هناك فجوة بنسبة 50 في المئة بين الطعام المُنتَج اليوم وما سنحتاجه بحلول عام 2050 بما يعني توفير إطعام البشر بشكل كافٍ، لكن توسيع نطاق الأراضي الزراعية سوف ينذر بنهاية الأنظمة البيئية الطبيعية المتبقية”.
أول حل يتبادر إلى الذهن هو أن يصبح البشر نباتيين، للحد من الاستخدام الهائل حاليا في الإنتاج الحيواني والأعلاف التي تتغذى عليها الحيوانات التي تربى للاستهلاك البشري. ولكن، لنكن واقعيين هل هذا ممكن؟
أصحاب هذا الرأي يرون أن على البشر التقليل من تناول اللحوم أو الامتناع عن تناولها كليّة، وتغيير عادات استهلاكهم للملابس.
وبينما تشهد دول غنية جدلا حول مدى أخلاقية استمرار السفر بالطائرة وحرق الفحم لإضرارهما بالبيئة، تحظى الزراعة باهتمام أقل بالرغم من ارتباطها بشكل مباشر بربع انبعاثات الغازات المسببة لارتفاع درجة حرارة الأرض.
وتسعى اللجنة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ بتقريرها الجديد، المخطط صدوره بعد بضعة أيام، لجذب الانتباه إلى عدة قضايا تأتي الزراعة في مقدمتها.
ويشير العلماء إلى ضرورة قيام البشر بتغيير نظامهم الغذائي وتناول كميات أقل من اللحوم إذ تتسبب الأبقار، وغيرها من الحيوانات المجترة، في انبعاث غاز الميثان المساهم في رفع درجة حرارة الأرض لأنها تخمّر الطعام قبل هضمه، وهو ما يعلق عليه رئيس الاتحاد السويسري للمزارعين ماركوس ريتر ساخرا “لا يمكننا إجبار الماشية على التوقف عن إخراج الغازات والتجشؤ”.
ويدعم أنصار هذا الرأي حججهم بذكر أن إنتاج كيلوغرام واحد من لحم البقر يتسبب في إضافة 13 كيلوغراما من مكافئ ثاني أكسيد الكربون إلى الغلاف الجوي، ما يتسبب في رفع درجة حرارة الأرض.
وترى ألموت أرنيث الباحثة بمعهد كارلسروه للتكنولوجيا أن الابتعاد عن المجترات “سيحرر مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية لزراعة المواد الغذائية وإعادة التشجير”.
بالطبع لم ننس أن أصحاب وجهة النظر هذه قد أشاروا أيضا إلى ضرورة تغيير عادات الملبس، فما نختاره من خامات يلعب دورا في ظاهرة الاحترار، واستشهدوا بتقرير حول مخاطر زراعة القطن على المناخ بسبب استخدام المبيدات والكثير من الماء، كما أن هناك حاجة إلى وقود الكربون من أجل تشغيل المضخات التي تقوم بريّ حقول القطن.
فريق آخر يرى في كل ما سبق رومانسية بيئية، قد تصلح للاستهلاك في جذب الأصوات في الحملات الانتخابية، ولكنه ليس حلا عمليا للمشكلة. ومن حسن الحظ أنهم يقدمون البديل، وهو بديل واقعي. الاستعانة بالذكاء الاصطناعي.
ويدعو هؤلاء إلى استخدام ما يُعرف باسم نظام التعديل الجيني الذي يُطلق عليه اسم “كرسبر – كاس9” لتطوير قدرات مقاومة للمناخ وقادرة على تحقيق عوائد أعلى بموارد أقل.
ويعد الأرز مثالا لتجربة ذلك إذ تتطلب محاصيل الأرز كميات كبيرة من المياه حيث تنمو مغمورة في الماء ما يعني أنها تتضرر بشدة جراء الجفاف الشديد الذي يضرب مناطق عديدة في العالم بينها مناطق منتجة للأرز مثل الصين وباكستان، لذا يمكن أن يساعد في مواجهة ذلك توسيع زراعة أصناف مثل IR 64 التي تنمو بشكل أساسي في آسيا وأجزاء من أفريقيا.
وقد جعل التعديل الجيني هذه النباتات أكثر مقاومة للجفاف وتحتاج إلى مياه أقل بنسبة تصل إلى 40 في المئة عمّا كانت تحتاجه في السابق. وهنا يجب ألاّ نخلط بين تحرير الجينوم والهندسة الوراثية التقليدية، التي تعتمد إدخال حمض نووي سواء كان اصطناعيا أو من كائن حي آخر.
وفي الوقت الذي يمكن أن تستغرق فيه عملية التهجين أكثر من عشر سنوات للحصول على النتيجة المرجوة، فإن التعديل الجيني يستغرق بضعة أشهر فقط.
ولا يتوقف الأمر على زراعة محاصيل أرز مقاومة للجفاف، إذ كشفت دراسات أخرى أنه من الممكن زيادة محصول الطماطم بنسبة تصل إلى 70 في المئة عن طريق هذه التقنية، فيما يحاول آخرون زراعة فول الصويا في تربة قاحلة ومالحة أو تقليل انبعاثات الميثان الناجمة عن محاصيل الأرز.
وفي كينيا يعمل العلماء على تطوير ما يسمونه “الموز الذكي” حيث تمكنوا بنجاح داخل المعامل من تنشيط جين يقوم بتنبيه جهاز المناعة الخاص بالنبات كإجراء وقائي ضد الفايروس الذي يصبح نشطا خلال فترات الجفاف.
قد يكون من المبكر الحكم على هذه التجارب، فهي لم تخل من مخاطر ويكتنفها بعض الشكوك، والعديد من المشاريع مازالت في مرحلة التجربة ولا توجد بيانات كافية، فيما يؤكد معارضو الأبحاث الجينية على أن التعديل الجيني يشكل خطر كبيرا، ولو أن هذه المخاوف مبنية على دوافع وأسس أخلاقية.
ومع دخول الولايات المتحدة والصين والعديد من الشركات متعددة الجنسيات، فإنه يتوقع أن يتم ضخ استثمارات كبيرة في هذا المجال ما يعني ظهور سوق يقدر بمليارات الدولارات بحلول نهاية العقد.
وفي الاتحاد الأوروبي، يتم تصنيف المحاصيل المحررة وراثيا على أنها معدلة وراثيًا وبالتالي يتم تنظيمها بشكل صارم، رغم أن المعسكر المؤيد يرى أنه سيكون من الأفضل الحديث في إطار طريقة جديدة للتكاثر في مقابل التلاعب الجيني.