أزمة لبنان تكشف أخطاء صندوق النقد الفادحة

مؤخّرًا، صدر تقرير مالي عن مجلّة Lebanon Opportunities بعنوان IMF’s Crystal Ball، استعرضت فيه المجلّة أبرز المحطّات التي فشل فيها صندوق النقد في تقييم حقيقة الوضعين المالي والنقدي في لبنان قبيل حصول الانهيار سنة 2019. ومن خلال مراجعة تقارير بعثة مشاورات المادّة الرابعة بين العامين 2011 و2019، تبيّن أن الصندوق لم يتمكّن من تلمّس مكامن الخلل الفعليّة التي كانت تقود البلاد نحو الأزمة التي شهدتها لاحقًا، وهو ما أنتج توصيات غير دقيقة تم توجيهها للسلطات اللبنانيّة في تلك التقارير. بل ويمكن القول أيضًا أن بعض تلك التوصيات سارت بعكس ما هو مطلوب لتفادي الوقوع في الانهيار الشامل.

وكما هو معلوم، تبيّن لاحقًا أن سياسة تثبيت سعر الصرف، وتورّط المصرف المركزي في عمليّة تمويل التحويلات إلى الخارج للحفاظ على سعر الصرف الرسمي، مثّلا أبرز الأسباب التي راكمت الخسائر في ميزانيّات القطاع المصرفي،  شجّعت تقارير صندوق النقد على اقتراض الدولة بالعملات الأجنبيّة، عبر إصدار سندات اليوروبوند وبيعها في الأسواق الدوليّة، معتبرةً أن هذا النوع من الإجراءات يخفف من الضغط على المصرف المركزي، من خلال استقطاب العملة الصعبة من الخارج. بل وفي واقع الأمر، قام صندوق النقد سنة 2015 بتشجيع المجلس النيابي على إصدار قانون يسمح بإصدار المزيد من سندات اليوروبوند، واصفًا القانون المقترح في ذلك الوقت بالخطوة الإيجابيّة.

اليوم، وبعد حصول الانهيار، تبيّن أن توسّع الدولة بالاقتراض بالعملات الأجنبيّة أدّى إلى ربط سلامتها الائتمانيّة بوضع المصارف التجاريّة وملاءتها، من خلال اعتمادها على القطاع باستمرار للاقتراض بالعملة الصعبة لسداد الديون المستحقة وفوائد الدين القائم. ولهذا السبب بالتحديد، وبمجرّد تزايد الضغوط على سيولة القطاع المصرفي بالعملات الأجنبيّة، توقّف القطاع عن الاكتتاب بسندات اليوروبوند، ما فرض اعتماد الدولة على مصرف لبنان لاقتراض الدولارات وسداد السندات المستحقة. ومع حصول الانهيار المصرفي لاحقًا، اضطرّت الدولة إلى الامتناع عن سداد ديونها، لعدم التفريط بما تبقّى من احتياطات في مصرف لبنان. باختصار، كان قرار التوسّع باستدانة الدولة بالعملة الصعبة، وبخلاف توصيات صندوق النقد، خطوة سيّئة أدّت إلى فرض إفلاس الدولة اللبنانيّة رسميًّا بمجرّد إفلاس القطاع المصرفي.

حذّرت بعض تقارير صندوق النقد بلغة متحفّظة وحذرة من بعض تداعيات الهندسات الماليّة التي قام بها مصرف لبنان. لكن بشكل عام، نظرت تقارير الصندوق بإيجابيّة إلى هذه الهندسات في العام 2016، على اعتبار أن هذه العمليّات “نجحت في زيادة احتياطات العملات الأجنبيّة في مصرف لبنان، وتمكنت من ضخّ السيولة المطلوبة لتمويل اقتراض القطاع الخاص”. وعلى مدى ثلاث سنوات، ابتعدت تقارير الصندوق عن الإشارة إلى التداعيات الكارثيّة التي ستتركها هذه الهندسات، وخصوصًا من جهة تعاظم حجم خسائر المصرف المركزي، إلى أن أشار الصندوق بلغة خجولة في العام 2019 إلى أنّ “هذه الهندسات لا تمثّل حلاً مستداماً”.

عام 2016، انضمّ صندوق النقد إلى المتفائلين بالدور الذي يمكن أن يلعبه لبنان في عمليّة إعادة إعمار سوريا، مشيرًا إلى الفرص الاقتصاديّة التي يمكن أن يستفيد منها لبنان لاحقًا نتيجة هذا الدور. وهنا بالتحديد، تغاضى صندوق النقد عن استشراف الكثير من التعقيدات التي تحيط بهذا المسار، وخصوصًا من جهة العقوبات المفروضة على النظام السوري، بالإضافة إلى الأزمة النقديّة التي تشهدها سوريا، والتي تجعلها أرضاً غير خصبة للاستثمار حتّى اليوم. مع الإشارة إلى أن النظام السوري يملك بدوره حسابات سياسيّة، تفرض إعطاء الأفضليّة لشركات أجنبيّة أخرى في إطار أي صفقات عموميّة أو فرص استثماريّة وازنة في سوريا.

بالنسبة إلى تنامي فجوة الخسائر في ميزانيّات مصرف لبنان قبل العام 2019، يصعب العثور على أي إشارة إلى تطوّر خطير كهذا في تقارير صندوق النقد الدولي، رغم أن مهمّة هذه التقارير هي تحديدًا الإشارة إلى مخاطر من هذا النوع، لتتخذ السلطات التنفذيّة والنقديّة الإجراءات التصحيحيّة المناسبة. تبيّن لاحقًا أن حاكم مصرف لبنان بذل جهدًا سنة 2015 لإخفاء الحديث عن هذه الفجوة في أحد تقارير الصندوق، ما عكس قدرة المسؤوليين المحليين على التأثير في مضامين التقارير وتوصياتها، بخلاف المطلوب للحفاظ على مصداقيّة هذه التقارير.

في خلاصة الأمر، من المفترض أن يكون ملف مفاوضات لبنان مع صندوق النقد الدولي من أولى المسائل التي ستتطرّق إليها الحكومة بعد تفعيلها في المرحلة المقبلة. ورغم حاجة لبنان إلى التفاهم مع وفد الصندوق على برنامج القرض، من المهم الإشارة إلى كل الأخطاء الفادحة التي ارتكبها خبراء الصندوق في المراحل السابقة، لتقييم أي توصيات يمكن أن يقدّمها الصندوق بشكل علمي قبل الأخذ بها كتعليمات مسلّم بصحتها. مع الإشارة إلى أن تجارب الصندوق في العديد من الدول التي مرّت بأزمات مشابهة مليئة بهذا النوع من الأخطاء، التي تدل إلى إمكانيّة وقوع خبراء الصندوق في فخ سوء التقدير.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةخفض سعر ربطة الخبز
المقالة القادمةضرب الفئات الأكثر هشاشة وحماية رأس المال والمصارف