أثار أكبر تحالف تجاري تقوده الصين تحت مظلة اتفاقية تجمع دولا آسيوية جدلا ومخاوف داخل الأوساط الاقتصادية. وتجمع التحاليل على أن هذه الاتفاقية تعكس خطوات بكين لاحتلال مكانة الولايات المتحدة كأكبر اقتصاد في العالم قبل منتصف القرن مقابل غياب واشنطن عن مختلف الاتفاقيات.
قلبت الاتفاقية التجارية التي أعلنتها الصين إلى جانب دول آسيوية بهدف إزالة الحواجز الجمركية وتحرير السوق المعادلة الاقتصادية، حيث يجمع خبراء أن الولايات المتحدة التي بقيت خارج هذا الحلف تزداد عزلتها في وقت تواصل فيه بكين التوسع والهيمنة.
وتضم اتفاقية “الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة” الجديدة دولا تأوي ما يقرب من ثلث سكان الكوكب والناتج الاقتصادي، ما جعل وزارة التجارة السنغافورية تصفها بأنها “أكبر اتفاقية تجارة حرة في العالم حتى الآن”.
وقال تشاو لي جيان، المتحدث باسم وزارة خارجية الصين، أكبر الدول الموقعة على الاتفاقية، إنها “تمثل دفعة قوية للتعافي الاقتصادي الإقليمي والنمو الاقتصادي العالمي. تظهر أن كافة الأطراف ملتزمة بالتعددية والتجارة الحرة”. وتضم الاتفاقية أيضا الدول العشر الأعضاء في رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، بالإضافة إلى أستراليا واليابان ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية.
وجاء توقيع الاتفاقية، التي عُرضت أول مرة في 2012، الأحد في ختام قمة افتراضية لقادة دول جنوب شرق آسيا، الباحثين عن إنعاش اقتصاداتهم المتضررة جرّاء تفشي كوفيد – 19. وتمثل الدول الـ15 المشاركة في اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة حوالي 30 في المئة من سكان العالم، والناتج المحلي الإجمالي العالمي، والتجارة العالمية.
وأكد بيان صادر عن الحكومات الموقعة أن الاتفاقية تظهر “التزاما قويا بدعم التعافي الاقتصادي والتنمية الشاملة، وتوفير فرص العمل، وتعزيز سلاسل التوريد إقليميا”.
ورغم ذلك، فقد كانت دول أخرى أكثر حذرا، وأشارت إلى أن معظم الدول الـ15 كانت قد وقعت بالفعل عددا لا حصر له من الاتفاقيات المماثلة ولكن أصغر مع بعضها البعض، تتضمن ترتيبات بعيدة المدى مثل اتفاقية التجارة الحرة الموقعة بين آسيان والصين منذ عقد.
وأفاد مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) بأن الاتفاقية “يمكن أن تساعد في تعافي النمو الاقتصادي بعد جائحة كورونا، وتعزيز التجارة البينية الإقليمية والعلاقات الاستثمارية في ظل التوترات التجارية العالمية، وتوفر إطارا للمزيد من التعاون الإقليمي”.
والاتفاقية، التي استغرق التفاوض بشأنها حوالي 8 سنوات وتضمها 510 من الصفحات، مذيلة بتفاصيل عن الرسوم الجمركية تشغل ما يصل إلى الآلاف من الصفحات الأخرى، أكثر من ألفين منها تخص كوريا الجنوبية فقط.
وترى ديبورا إلمز، المديرة التنفيذية لمركز التجارة الآسيوي، وهي منظمة بحثية مقرها سنغافورة، أن “الاتفاقية سوف تستغرق بعض الوقت حتى تتكشّف تفاصيلها”، موضحة أن “الحكومات يمكن أن تبدع تماما لإخفاء تفاصيل مهمة داخل البنود المختلفة”. وعلى الرغم من تعقيدات الاتفاقية، فقد وصفتها إلمز بأنها مع ذلك “يمكن أن تكون أكثر طموحا بشكل عام”.
وكانت الهند، ثاني أكبر دولة من حيث عدد السكان وصاحبة خامس أكبر ناتج محلي إجمالي في العالم، قد انسحبت من محادثات الاتفاقية قبل عام بسبب مخاوف من عدم استعداد شركاتها للمنافسة الخارجية.
وتوقع جريج بولينغ، الباحث في برنامج جنوب شرق آسيا بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية على موقع تويتر، أن يكون للاتفاقية “تأثير هامشي على التجارة، (خاصة) دون الهند. فمعظم الأطراف لديها بالفعل اتفاقيات مماثلة أو حتى أفضل مع بعضها البعض”. كما أن الولايات المتحدة، صاحبة أكبر اقتصاد في منطقة آسيا – المحيط الهادئ – ليست طرفا في الاتفاقية.
وكان باراك أوباما رئيس الولايات المتحدة آنذاك قد شارك في قمة عام 2012 عندما تم اقتراح الاتفاقية للمرة الأولى، إلا أن بلاده كانت تقود في ذلك الوقت مفاوضات بشأن اتفاق تجاري منفصل يعرف باسم “الشراكة عبر المحيط الهادئ”. وانسحبت الولايات المتحدة لاحقا من الاتفاق بعد انتخاب الرئيس دونالد ترامب عام 2016.
ورغم أن رابطة آسيان هي أول من اقترح اتفاقية “الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة”، فإن القوة الاقتصادية للصين وغياب الولايات المتحدة عن كل من الاتفاقية وكذلك من اتفاق “الشراكة عبر المحيط الهادئ” قد زادت التكهنات بأن الصين ستهيمن على التجارة الإقليمية بشكل متزايد، بالتزامن مع توقعات بأن بكين تمضي قدما لتحتل مكانة الولايات المتحدة كأكبر اقتصاد في العالم قبل منتصف القرن. وأكد بولينغ أنها “خسارة كبيرة للولايات المتحدة أن تبقى منزوية في حالة استياء بينما يمضي الآخرون قدما في وضع القواعد الاقتصادية”.
والاتفاقية الجديدة تمثل ثورة للصين، التي تعد أكبر سوق في المنطقة مع أكثر من 1.3 مليار مستهلك، مما يسمح لبكين بأن تصور نفسها على أنها “بطل العولمة والتعاون متعدد الأطراف ويعطيها تأثيرا على القواعد التي تحكم التجارة الإقليمية”، بحسب ما قاله غاريث ليذر، كبير الاقتصاديين الآسيويين في كابيتال إيكونوميكس، في تقرير له.
وبعد إعلان جو بايدن خصم ترامب رئيسا منتخبا، بدأت الصين تراقب المنطقة لترى كيف ستتطور سياسة الولايات المتحدة بشأن التجارة والقضايا الأخرى. ومن المرجح أن تؤدي هذه الاتفاقية إلى تعزيز دور بكين المهيمن في المنطقة في مواجهة الولايات المتحدة، التي لم تشارك في الاتفاقية.
ويؤكد قادة الصين أن الانفتاح الاقتصادي خير بلسم لتضميد جراح الاقتصاد العالمي، حيث تفيد تصريحات كبار المسؤولين في مناسبات عديدة بأن بكين ملتزمة بالتعددية، وتسعى إلى تحقيق التنمية مع بقية العالم بروح الانفتاح والتعاون متبادل المنفعة. وعلى الرغم من أن الوباء قد أجج المشاعر المناهضة للعولمة وغذى الحمائية في مختلف أنحاء العالم، إلا أن الصين لم تتراجع عن قرارها ببناء اقتصاد مفتوح.
وتقول تحاليل وتقارير اقتصادية إنه بالإضافة إلى مساعدة نفسها على تحقيق انتعاش اقتصادي سريع، فإن التزام الصين باقتصاد مفتوح قد أدى إلى ضخ زخم جديد في الاقتصاد العالمي المتعثر. ولم تكن الدعوة إلى اقتصاد عالمي مفتوح بمثل هذه الإلحاحية في هذه اللحظة الحرجة، حيث أبتليَ العالم بأزمة مزدوجة هي الركود الاقتصادي والوباء.