ليس تفصيلاً أن يكون على 85% من الشعب اللبناني أن يدفعوا ثمن أي خدمة طبية يحتاجونها من جيوبهم الخاصة وفقاً لمصادر مطلعة، ويشمل ذلك المنتسبين الى صناديق الدولة الضامنة وفي مقدّمهم منتسبو الضمان الاجتماعي. كما من المستهجن أن يكون 55% من اللبنانيين (بحسب المصادر نفسها) من دون اي ضمان صحي في الوقت الذي كان فيه لبنان قبل الازمة مستشفى المنطقة، والأطباء والممرضون اللبنانيون يحتلون (ولا يزالون) مراكز في أهم مستشفيات العالم.
هذه الصورة الكئيبة سببها إنهيار الليرة مقابل الدولار منذ بداية الازمة الحالية، والذي تبعه إنهيار في قدرة مؤسسة الضمان الاجتماعي والصناديق الضامنة الاخرى على التغطية الصحية اللازمة لهؤلاء المنتسبين، كي يتمكنوا من إجراء فحوصات أو عمليات جراحية حين يستلزم وضعهم الصحي ذلك. وباتت التغطية الصحية التي تؤمنها هذه الصناديق لا تتجاوز 10% من الكلفة الفعلية، في حين أن المستشفيات الخاصة والحكومية تطلب بدل اتعابها وخدماتها بالدولار الفريش.
معاناة المرضى
ولعلّ أبرز مثال على هذا العجز ما يؤكده الواقع الميداني ان «العديد من المرضى يعمدون الى تأجيل عملياتهم الجراحية المطلوبة او إرجاء اجراء فحوصات طبية ضرورية بسبب عدم قدرتهم على دفع تكاليفها، في حين أن اطباء ومستشفيات لا يتوانون عن تقديم المساعدة للحالات الخطيرة فقط، لكنهم يؤجلون العمليات الجراحية التي تحتمل الانتظار»، اذ يؤكد طبيب مطلع «أن الاطباء يحاولون الاستمرار باللحم الحي، لأنهم يعانون الأمرين لتحصيل حقوقهم المالية من المصارف ووزارة الصحة، ويعطي مثلاً على ذلك بأن قوى الامن الداخلي منذ 3 سنوات لم تستطع تغطية المنتسبين لصندوقها».
إنقلاب رأساً على عقب
إذاً، منذ اندلاع الازمة انقلب الواقع الصحي في لبنان رأسا على عقب، ليس فقط على صعيد الخدمات المقدمة لمنتسبي الضمان، بل أيضاً على صعيد المُستخدمين فيه، وهذا ما تمكن رصده من خلال الاعتصامات التي نفذها هؤلاء يوم الخميس الماضي أمام مكاتب الضمان الاجتماعي في مختلف المناطق، إحتجاجاً على إمتناع مجلس إدارة الضمان عن الموافقة على مطالبهم وحقوقهم في مواجهة الازمة الاقتصادية والمعيشية الخانقة، (فضلاً عن عدم توفر الاموال لتشغيل هذه المراكز) ودعوتهم للاعتصام امام المراكز إبتداء من الاثنين 5 حزيران. وهذا يدل على أن الإنهيار الحاصل في مؤسسات الدولة ضرب الضمان في الصميم ليس فقط بسبب انهيار الليرة مقابل الدولار، بل ايضاً بسبب المقاربة التي تمّ إعتمادها في إستثمار أمواله قبل الازمة. وهذا ما يُسجله المتابعون على ادارة الصندوق، ويضعون هذا الامر في خانة أن هذه المؤسسة خضعت ولا تزال لمعيار «الحسابات السياسية» التي تحكم كل قراراتها وخياراتها واستثماراتها قبل الازمة وبعدها.
إنتظار قرارات مهمة
يشدّد المدير العام لصندوق الضمان الاجتماعي الدكتور محمد كركي لـ»نداء الوطن» أن «الضرورة القصوى لدى الضمان كانت برفع تعرفة استشفاء مرضى غسيل الكلى. وممنوع على اي مستشفى أن يتقاضى اي اموال اضافية من المريض، لأن التعرفة تلبي الكلفة المطلوبة بالدولار والتي تقدّر كلفتها الاجمالية على الضمان بـ1300 مليار ليرة سنوياً»، لافتاً الى أنه «بناء على الزيادات التي طرأت على الحد الادنى للأجور وزيادة الاجور ستؤمن ايرادات اضافية للضمان. ولذلك قمنا بدراسة اكتوارية اظهرت ان الفوائض الاضافية التي سيحصدها الضمان هي 8300 مليار، وأول 1300 مليار تمّ تخصيصها لمرضى غسيل الكلى».
يضيف: «هناك لجنة استشارية طبية عليا ستجتمع وستدرس كل سياسات الضمان في حقل التأمينات، وتعرض على المدير العام التعرفة لأخذ القرارات المناسبة، وطلبنا ايضاً جلسة للجنة الادوية لدراسة كل ما يتعلق بتعرفة الدواء وعرضها على المدير العام. وهناك اقتراح ستتم دراسته يتكوّن من ان 670 دواء (أدوية مزمنة) وأدوية الجنريك سيتضاعف سعرها 15 مرة مقارنة مع سعرها على دولار 1500، وأدوية البرند ستزيد تعرفتها 12 مرة».
يؤكد كركي أنه «مع ازدياد القدرات المالية للضمان سيعاد النظر بتسعيرة كل الادوية وسيخصص للأدوية 1200 مليار ليرة. وهذا يعني أن الضمان سيعاود رد ثمن الدواء بين 30 الى 80%، وما بقي (مبلغ 8300 مليار) فسيوزع على كل ما يتعلق بمعاينات الاطباء والاستشفاء والفحوصات والمختبرات. واقتراحات ادارة الضمان ان تتم مضاعفتها بين 8 و 10 مرات»، ويعطي مثالاً على ذلك أن «معاينة الطبيب الاخصائي التي كانت 50 ألف ليرة ستكون 450 ألفاً، والاقامة في المستشفى كانت كلفتها في الليلة 90 ألفاً ستتضاعف الى 850 ألف ليرة، وكل تعريفات الضمان تتم مضاعفتها بين 8 الى 10 مرات في حال أتت الموافقة من اللجان المختصة بين يومي الثلاثاء والاربعاء، اي اللجنة الاستشارية الطبية العليا ولجنة الادوية».
يضيف: «برأينا، هي تعريفات مقترحة ستغطي 40% من الفواتير الاستشفائية. ونحن حريصون على تحويل التمويل الذي يصلنا الى تقديمات للناس. وهنا لا بدّ من التنويه بخطوة وزير المال يوسف خليل الذي حوّل للضمان هذا العام 1250 مليار ليرة، وبعد محادثات مشتركة بيننا وبين الاتحاد العمالي العام ووزارة المالية، تمّ التوافق على ان تدفع لنا الوزارة لاحقاً 1000 مليار(من اشتراكات الدولة لدى الضمان) على دفعتين علماً أنه يجب ان تدفع لنا ما بين 2000 و3000 مليار ليرة سنوياً».
يشدّد كركي على أن «معاناة الضمان ليست فقط مع الدولة بل ايضاً مع القطاع الخاص الذي يستنكف عن دفع 400 دولار عن الموظفين خلال العام للضمان، لكنه مستعد ان يدفع آلاف الدولارات لشركات التأمين الخاصة. كما أن الدولة زادت لتعاونية موظفي الدولة بدل الاستشفاء 50 ضعفاً، وما نريده ان تكون الزيادة في الضمان 20 ضعفاً»، مشيراً الى أنه «بعد كل هذه الزيادات التي ستحصل، ممنوع على المستشفيات والاطباء ابتزاز المواطنين. والا سنتخذ بحقهم الاجراءات الادارية والقانونية اللازمة مع الاشارة الى ان فرع المرض والامومة في الضمان هو في حالة عجز منذ العام 2003 بسبب تخفيض نسبة الاشتراكات. ونحن كإدارة لا يحق لنا استعمال اموال الفروع الاخرى، ونعمل حالياً على تعويض الخسائر التي لحقت بفرعي نهاية الخدمة عبر استبداله بنظام تقاعدي مدى الحياة، وزيادة نسبة التعويضات العائلية».
ويختم: القسم الاكبر من أموال الضمان موظف في سندات الخزينة (73%) وموجود لدى المصارف بالدولار الاميركي (450 مليون دولار). وكمؤسسة ضمان بامكاننا سحب الاموال التي نريدها بالليرة اللبنانية من المصارف ومصرف لبنان، لكننا ننتظر كيف ستتعاطى الدولة مع الاموال التي تمّ تحويلها من الليرة اللبنانية الى الدولار عند بداية الازمة لنبني على الشيء مقتضاه».
من حال البلد
على ضفة صندوق الضمان ايضاً يشرح رئيس مجلس ادارة الصندوق بالانابة غازي يحيى لـ»نداء الوطن» أن «هناك عدم توازن بين الكلفة الحقيقية للخدمات الطبية وبين تسعيرة هذه الخدمات في جداول الصندوق بفعل إنهيار سعر الليرة اللبنانية. ومؤخراً تمت زيادة الحد الادنى للأجور بمراسيم متعددة ومن المفترض ان تحقق نوعاً من الوفر في اشتراكات المنتسبين بحوالى 8000 مليار ليرة»، موضحاً أنه «يوم الاربعاء (المقبل) سيجتمع مجلس ادارة الضمان لتحسين التقديمات الاجتماعية بالمبلغ المتوفر لدينا من زيادة الاشتراكات، سواء تلك التي تمّ تحصيلها الى الآن او تلك المتوقع تحصيلها خلال 2023 وسنحاول زيادة هذه التقديمات تدريجياً، لأن الانهيار الحاصل والفروق بين سعر دولار 1500 ليرة و دولار 100 ألف ليرة أدى الى ذوبان مفعول هذه التقديمات».
يضيف: «تبلغ ديون الضمان على الدولة 6000 مليار ليرة وهناك مساهمة سنوية من الدولة بنسبة 25% بالاضافة الى إشتراكات موظفيها والمؤسسات المنتسبة للضمان. وهذه المستحقات على الدولة السعي لتسديدها بموازناتها السنوية، أما الجانب الآخر من التمويل في الضمان فهو إشتراكات أصحاب العمل والعمال، والتي من المفروض أن تزداد مع زيادة الحد الادنى للأجور ومن المفروض أن تُصرف في تقديمات الضمان».
ويشدد على أن «لا مشكلة بين الضمان والمصارف ومصرف لبنان في السحوبات والدفع، وحساباتنا مؤمنة بموجب قانون صادر يحمي أموال المضمونين داخل المصارف والمصرف المركزي، لكن الضمان ليس جزيرة منعزلة عن المجتمع الاقتصادي والاجتماعي في لبنان وأمواله مرتبطة بالحل الشامل للمشكلة الاقتصادية في لبنان».
ويختم: «الضمان سيواكب هذا التطور بشكل ايجابي حين يحصل تطور نحو الافضل في الوضع المالي».
طبابة عبر المراسلة!!
في ما يتعلق بيوميات اللبنانيين مع أوجاعهم وكيفية تطبيبها من دون ضمان أو تأمين صحي «حقيقي»، يوضح أحد الاطباء في مستشفى رفيق الحريري الحكومي هذا الواقع لـ»نداء الوطن» بالقول: «بعد الازمة، التغييرات التي طرأت على عادات اللبنانيين الصحية، ليست فقط بعدم لجوئهم الى المستشفيات الخاصة الا عند الضرورة، بل أيضاً الى عدم اللجوء الى المستشفيات الحكومية لأنها باتت تتقاضى ثمن الفحوصات (ولو بأسعار اقل من المستشفيات الخاصة). في حين أنها قبل الازمة كانت تُجرى على حساب الجهات الضامنة (الضمان والصناديق الضامنة الأخرى ووزارة الصحة…) وكان المريض يدفع فروقات رمزية. بالاضافة الى تقاضي جميع المستشفيات الخاصة والحكومية بدل أجرة الاسرّة وأتعاب الاطباء في العمليات الجراحية والمعاينات بالدولار الفريش لتغطية نفقاتها التشغيلية».
زيادة الاعتمادات والتعرفات
كلام الطبيب أكده وزير الصحة فراس الابيض في اطلالة تلفزيونية، مشيرا الى أن «وزارة الصحة تحاول قدر امكاناتها التخفيف عن كاهل المواطن، ولذلك عمد صندوق الضمان الاجتماعي مؤخراً الى زيادة تعرفة جلسة غسيل الكلى من 2500000 ل.ل إلى 5240000 ل.ل، دون إحتساب بدل أتعاب الأطباء وتعديل أتعاب الطبيب المعالج لتصبح 1040000 ل.ل بدلاً من 500000 ل.ل عن كل جلسة. وهناك اقتراح لزيادة اعتمادات وزارة الصحة لرفع التعرفات للمستشفيات بشكل مشابه لما حصل في تعاونية الموظفين».
ولفت أبيض الى أن «المشكلة الأساسية أن الرعاية الصحية لا تشمل الجميع، وقد حوّلت الوزارة 36 مليون دولار للرعاية الصحية الأولية، وزهاء 200 ألف مريض سيحملون بطاقة صحية بدعم من البنك الدولي».
إنتظار رفع الرواتب والإشتراكات
على ضفة المستشفيات، يشرح نقيب أصحاب المستشفيات الخاصة الدكتور سليمان هارون لـ»نداء الوطن» أنه «كان لدى المستشفيات الخاصة مشكلة كبيرة تتعلق بتعرفة الضمان الاجتماعي لجلسات غسيل الكلى، لكن هذه المشكلة تمّ حلها من خلال رفع التعرفة، وباتت مشابهة لتعرفة باقي الجهات الضامنة ومقبولة. ومرضى غسيل الكلى على حساب الضمان لم يعودوا ملزمين بدفع الفروقات»، لافتاً الى أنه «على صعيد باقي انواع الاستشفاء، فالضمان لم يعدّل الى الآن تعريفاته بشكل يغطي كلفة الفاتورة بالدولار الفريش وبحسب سعر السوق السوداء، وحالياً المريض يدفع 90% من كلفة الفاتورة والضمان 10%. ولكن بعد زيادة المعاشات ورفع قيمة الاشتراكات، نحن موعودون بتعديل التعرفة، ولكن لا نعلم متى سيتم هذا الامر».
يضيف: «يجب تعديل تعرفة الضمان وتعديل أسعار الادوية، فإلى الآن لا يزال احتسابها على أساس دولار 1500 ليرة. والى أن يتم التعديل، المريض هو من يدفع الفروقات الكبيرة في الفاتورة الاستشفائية وهي هائلة. وهناك مرضى يحجمون عن دخول المستشفى لأنهم غير قادرين على دفع التكاليف، لأن الفروقات طائلة. والمستشفيات تقدم أقصى ما عندها علماً أن كل الخدمات التي تقدمها يتم شراؤها وفقا لسعر دولار السوق السوداء، سواء الادوية أو المستلزمات الطبية. وبالتالي الفواتير عالية ولذلك يجب معالجة هذا الامر رأفة بالمرضى المضمونين».
إلغاء التأمين التكميلي
على خط شركات التأمين يشرح النقيب سعيد ميرزا لـ»نداء الوطن» أنه «تمّ الغاء الخدمة التي كانت تدفعها شركات التأمين الخاصة كفرق سعر بين تغطية الضمان والكلفة الحقيقية للخدمة الطبية لأنها لم تعد مجدية، ولا تتعدى نسبتها 5% من كلفة الفاتورة الصحية. هذا يعني أنها باتت «مش حرزانة» فالفروقات التي تتقاضاها الشركات من الضمان لم تعد تساوي شيئاً أمام الفواتير بالفريش دولار التي على المريض دفعها (20 دولاراً على الاكثر)».
يضيف: «هذه الخدمة لن تعود الا بعد أن يعود الوضع الى طبيعته واستقراره على صعيد سعر صرف الليرة مقابل الدولار.
تحضير خدمة جديدة
ونحضّر كشركات تأمين بالتعاون مع وزارة الصحة لتقديم خدمة تأمين صحي لتغطية المرضى في عدد محدد من المستشفيات الحكومية الفعالة والقادرة على تأمين الخدمات الصحية كاملة، اضافة الى بعض المستشفيات الصغيرة. على أن تكون كلفته أقل على المواطن من دخول مستشفيات خاصة ولا سيما الجامعية منها. لكن هذا المشروع يحتاج إنجازه الى نحو شهرين وعلى أمل أن يتزامن ذلك مع إنتخاب رئيس جديد للجمهورية يكون باباً لإعادة نهوض البلد من جديد».
كيف تبخّرت الأموال؟
بعد الانهيار المالي والنقدي الكبير بعد 17 تشرين 2019 تراجعت قيمة مدّخرات الصندوق من 8.5 مليارات دولار إلى 450 مليون دولار، ويشرح العضو السابق في مجلس ادارة الضمان أديب بو حبيب لـ»نداء الوطن» أن الانهيار المالي الحاصل في البلد إنعكس على كل المؤسسات ومنها مؤسسة الضمان الاجتماعي، كونه كان يغطي 90% من فاتورة الاستشفاء للمضمون و80% من فاتورة الدواء بحسب قانونه الاساسي. والاشتراكات التي تمّ تحصيلها سابقاً كانت تؤخذ بناء على المعاش الذي يتقاضاه العامل، وبفعل الانهيار بات هناك فرق كبير بين ما كان الحد الادنى للأجور 675 ألف ليرة، واليوم (في حال تطبيقه) 9 ملايين ليرة، علماً أن نسبة 50% من المؤسسات لا تصرح للضمان عن عدد العاملين لديهم (مكتومة عن الضمان) وزاد الانهيار هذا الكتمان عن عدد العاملين او تنسيبهم».
إستيراد الأدوية وتوحيد الصناديق
يرى بو حبيب أن «المشكلة الاساسية التي يعانيها الضمان الاجتماعي عموماً هي عدم اعتماده إستيراد الادوية لصالح منتسبيه، وعدم توحيد الصناديق الضامنة عموماً وهو المشروع الذي نادينا به دوماً (الأمن الداخلي وتعاونية موظفي الدولة…). ولهذا كان اقتراحنا تأسيس المكتب الوطني للدواء اذ تم رصد 5 مليارات ليرة لاستيراد الادوية لكن هذه الاموال تبخرت من دون محاسبة»، مشدداً على أن «العنصر الاساسي الذي أفقد الضمان الاجتماعي دوره هو ايضاً إنهيار الحركة النقابية التي كانت فاعلة ومؤثرة في مواجهة السياسات الاقتصادية والاجتماعية للدولة، وهذا ما انعكس على اداء الصندوق. والسياسة العامة للحكومات المتعاقبة بعد الطائف كانت تهدف الى الغاء الضمان لكي تتولى شركات التأمين الخاصة تأمين هذه الخدمة، وهذا ما رفضته الشركات حينها لأن لا قدرة لها على ذلك، واقترحت حصول تأمين اضافي».
يضيف: «الإنهيار الشامل ضرب الضمان وذوّب رأسماله علماً أنه كان يمكن أن يستعمل هذه الاموال على غرار ما فعل الاردن، اي استخدامها في مشاريع انتاجية بدل استثمارها في سندات الخزينة، وكان يجب تطبيق ما نص عليه قانون الضمان اي الانتقال من تعويض نهاية الخدمة الى راتب التقاعد والحماية الاجتماعية. وكان هناك سياسة تم افشالها من قبل السلطة وهي إنشاء مستشفيات خاصة لمنتسبي الضمان الاجتماعي».
الطعام أولاً… وزنّار النار ينتظر
تروي دينا مهدي (عاملة في أحد معامل الخياطة) لـ»نداء الوطن» أنها «أصيبت «بزنار نار» في أواخر شهر أيار الماضي، فعمدت الى إرسال صور التقرحات التي ملأت جسمها الى أختها التي تعمل ممرضة في احد المستشفيات، كي تستشير لها طبيباً يصف لها الادوية اللازمة من دون دفع ثمن المعاينة»، وتقول: «بصراحة في أواخر الشهر لا يبقى لدي الا ثمن الطعام، ولن أحرم أولادي منه لكي أذهب الى الطبيب فاتّبعت هذه الطريقة».
حوّلوا “الضمان” إلى هيكل فارغ من الإمكانات
المسار الانحداري الذي يعيشه صندوق الضمان الاجتماعي يدل على تحوله من أهم وأقوى وأكبر مؤسّسة ضامنة في لبنان، الى هيكل فارغ من الامكانات المالية التي تعين المنتسبين اليه على مواجهة المرض والاستشفاء عبر فرع المرض والامومة والتعويضات العائلية وحفظ كراماتهم عبر تعويض نهاية الخدمة، نتيجة ضياع موجوداته واحتياطاته (بعد الازمة) بين المصارف التي أودع بها أموال المنتسبين والدولة التي أقرضها. وأحد الاسباب الرئيسية لهذا الانحدار هو أن الصندوق منذ اعادة تفعيل دوره بعد الطائف، دخل في حسابات «الاقتصاد السياسي» للمنظومة السياسية ومن بابها العريض وبات كنزاً ثميناً لها. فهو من أكبر حاملي سندات الخزينة بالليرة اللبنانية التي خسرت أكثر من 97 بالمئة من قيمتها وخسر قيمة ودائعه في المصارف الخاصة ومصرف لبنان. أما النكسة الكبيرة فهي في ذوبان قيمة تعويضات نهاية الخدمة، بحيث أن جهد موظف قضى 40 عاماً في العمل لا يساوي أكثر 2 الى 3 آلاف دولار على سعر السوق السوداء كمعدل وسطي.
ويذكر ان القانون الاساسي للصندوق أنشئ بمرسوم رقم 13955 تاريخ 26 أيلول 1963 وبصيغ تجعله محمياً من التدخلات السياسية المختلفة، حيث جرى تكريسه مؤسسة مستقلة ذات طابع اجتماعي تتمتع بالشخصية المعنوية وبالاستقلال المالي والإداري، ويخضع لوصاية مجلس الوزراء ووزارة العمل. الا أن أهم الثغرات التي أدت الى إنهياره ومعاناة المنتسبين اليه حالياً (بحسب المتابعين)، «هي التوظيف السيئ للاشتراكات في سندات الخزينة لتلبية طلبات الدولة بالاستدانة وإيداع أموال المساهمين في المصارف بالليرة اللبنانية، ولم يتمكن الصندوق من تحقيق مشاريع تطويرية ضرورية لزيادة التقديمات. في حين أنه خلال سنوات الحرب حافظ على تأدية تقديماته وكان الاحتياط المالي للصندوق إيجابياً فراكم مخزوناً كبيراً. لكن ذلك لم يعكس تطوراً بارزاً لجهة جودة التقديمات واتساع رقعة التغطية أو تحسّن أداء الإدارة. حيث كان من الصعوبة إجراء عملية إصلاح لأي من المؤسسات في ظل نظام المحاصصة الطائفية.
ويسجل المتابعون أنه عند انتهاء الحرب الأهلية، كان الصندوق يمتلك إمكانات مالية كبيرة، وبدأت المحاولات الأولى للإمساك به من قبل السلطة السياسية عبر طرح ومناقشة خصخصة التقديمات الصحية، لكن الإمكانات المالية الكبيرة التي كان يمتلكها أسالت لُعاب السياسيين وحصلت اجراءات لوضع اليد على الصندوق، عبر السيطرة على كامل مجلس الإدارة اي على القرار من داخل الصندوق نفسه، استكملت عملية الاطاحة باستقلاله المالي بالتعدي على إستقلاله الإداري، حيث أن موازنة 2004 أدخلت مادة في مضمونها تشير إلى إلحاق الصندوق بمجلس الخدمة المدنية خلافاً لقانون الضمان الذي ينص على كونه تحت وصاية وزارة العمل ومجلس الوزراء، كما فُتح الباب واسعاً امام التوظيف وفق نظم الزبائنية والمحاصصة الطائفية.
لولا أولادي لاستمرّت معاناتي
على أرض الواقع، فإن حكايات الناس غير القادرين على دفع تكاليف طبابتهم كثيرة، ولذلك يحاولون التحايل على هذا الواقع إما باللجوء الى الصيادلة لإعطائهم أدوية تخفف أوجاعهم وتتيح لهم توفير بدل معاينة الطبيب والتي تقدر بين 20و25 دولاراً او أكثر في حالات معينة، أو «اجراء لمّة عائلية» في حال كان اجراء العملية الجراحية ضرورياً.
نموذج آخر لتحايل المواطنين على مرضهم وأوجاعهم ترويها سلوى قاسم لـ»نداء الوطن»، فتقول: «في الصيف الماضي شخّص الطبيب أوجاع ظهري بأنها ناتجة عن الديسك وعليّ إجراء عملية فوراً. حاولت المماطلة الى شهر تشرين الثاني الى أن بات الالم لا يحتمل. ولأن زوجي يعمل سائق تاكسي والضمان لا يغطي الا 10% من كلفة العملية، عمد أولادي الى التعاون لدفع كلفة العملية والتي بلغت 1300 دولار (مع توصية وفي مستشفى صغير) والاّ لما كنت قادرة على الحراك الى الآن».