أعضاء لجنة المال والموازنة النيابية شديدو النباهة. يُجمعون على أن دراسة اقتراح قانون القيود على رأس المال (كابيتال كونترول)، «تأتي متأخّرة». شكراً أصحاب السعادة. في الواقع، يحتاج المرء إلى كثير من الفطنة ليُدرك أن اقتراح قانون طارئ، كتقييد حركة السحوبات والتحويلات في بلاد تعيش واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية والمالية والنقدية في التاريخ الحديث، يُبحث متأخراً عن موعده 20 شهراً على الأقل. سنة و8 أشهر، لم يُهدِرها أصحاب السعادة في اللهو. كانوا يجدّون في الدفاع عن امتيازات أصحاب الثروات. أكثر أعضاء اللجنة فطنة هو رئيسها، إبراهيم كنعان. يقول إن اقتراح الكابيتال كونترول يجب أن يكون مقروناً بخطة إصلاحية شاملة. يشاركه مستوى الفطنة نفسه زميلاه ياسين جابر ونقولا نحاس. والثلاثة، كانوا الفرسان الذين أسقطوا الخطة الحكومية الشاملة.
كانت خطّة دياب، على علّاتها، «الورقة» الرسمية الوحيدة التي تحدّد الخسائر التي لحقت بالقطاع المالي، وتوزّع هذه الخسائر بصورة أولية. هي الوثيقة الوحيدة التي كشفت جزءاً من الكارثة الكبرى التي ارتكبها حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، حتى بات لبنان الدولة الوحيدة في العالم التي تتجاوز قيمة خسائر مصرفها المركزي مجمل قيمة الناتج المحلي لهذه الدولة. والأهم، أنها الوثيقة الوحيدة التي تتضمّن خطة مقترحات للخروج من الأزمة.
في الأصل، لا بدّ من التذكير بأن وظيفة قانون تقييد حركة رأس المال، هي وظيفة طارئة، تحمل صفة الـ«فوري». هو قانون تلجأ إليه الدول لحماية ثرواتها الوطنية وعملاتها المحلية واقتصادها، لمنع هروب الأموال في أيام الأزمات. أصدرته عشرات الدول حول العالم. وفي بعض الأحيان، يطبّق بعضها قانون التقييد (كابيتال كونترول)، احترازياً، أي قبل نشوب الأزمات. وعلى ما ذكّرنا الباحث في «الدولية للمعلومات» محمد شمس الدين، لجأت حكومة الرئيس رشيد كرامي في عهد الرئيس شارل حلو إلى إقرار قانون (مرسوم اشتراعي بعد نيلها صلاحية استثنائية من مجلس النواب) لتقييد سحب الأموال من المصارف، فور اندلاع حرب عام 1967 التي شنّها العدوّ الإسرائيلي في فلسطين وضد مصر وسوريا والأردن. فعلت حكومة «سويسرا الشرق» ذلك، في ساعات، خشية هروب رأس المال من القطاع المصرفي، رغم أن لبنان لم يكن مشاركاً في تلك الحرب.
وفي الأزمة التي يعيشها لبنان حالياً، كان ينبغي أن يصدر في الأيام التي شهدت أول توقّف للمصارف عن العمل بعد 17 تشرين الأول 2019. فإقفال البنوك أبوابها هو كناية عن «كابيتال كونترول» بلا قانون، يستهدف تحديداً «صغار المودعين». أما أصحاب الودائع الكبيرة، من مصرفيين وسياسيين ومحتكرين وتجار محظيّين، فكانت عملية تهريب أموالهم إلى الخارج جارية على قدم وساق، فيما من يملكون القليل في حساباتهم المصرفية ممنوعون من الحصول على مدخراتهم. تُركت المصارف تطبّق القيود «على ذوقها»، وهو ما لا تزال تقوم به، بقرار من إداراتها، وبتنظيم ورعاية من حاكم مصرف لبنان. مجلس النواب ــــ الشديد الحرص على صلاحياته ويرفض رئيسه منذ اتفاق الطائف منحها استثنائياً للحكومة ــــ قرر أن يمنح كل تلك الصلاحيات لرياض سلامة. لم يملأ الأخير فراغاً تُرك له عمداً وحسب، بل حصل على ما يُشبه الصلاحيات التشريعية الاستثنائية التي جعلته يفرض القيود التي يريد، بعد تمنّعه سابقاً عن الاستجابة لمطالب وقف التحويل إلى الخارج، بذريعة غياب التشريع القانوني.
في حالة اقتراح الكابيتال كونترول ــــ وبعدما جرى تأخيره حتى دخلت البلاد مرحلة اقتصاد الحرب من دون إطلاق نار ــــ فإن عدم إقراره يعني تفويض رياض سلامة إنقاذ المصارف والمحتكرين على حساب جميع الناس. بعد سنة و8 أشهر، أقِرّ في لجنة المال والموازنة. كانت نقاشات النواب تتركّز حول ما سمّوه «تمويل الكابيتال كونترول»! بدا أصحاب السعادة كما لو أنهم يبحثون في تشريع الإنفاق لا تشريع القيود. وبعد لجنة المال والموازنة، أحاله رئيس المجلس نبيه بري على لجنة الإدارة والعدل. وبعد «عُمر طويل» في «الإدارة والعدل»، سيحلّ الاقتراح ضيفاً على طاولة نائب رئيس مجلس النواب، إيلي الفرزلي، بصفته رئيساً لجلسات اللجان المشتركة! ومن المناسب التذكير بأن الفرزلي كان السياسي الوحيد الذي امتلك الشجاعة ليقول علناً: «نعم نحن حزب المصرف». وكرمى لعيون هذا الحزب، سيتولى الفرزلي «تهذيب» اقتراح القانون، ليُنتج «كابيتال كونترول» لم يشهد التاريخ له مثيلاً. سيستكمل ما بدأه زميله إبراهيم كنعان الذي يتباهى بما «أنجزه»، مخفياً أنه يتضمّن تشريع تحويل الأموال التي تودَع في المصارف نقداً إلى الخارج. ورغم أن مجلس النواب يمضي في دراسة هذا الاقتراح الطارئ، متأخراً 18 شهراً، ببطء شديد، فلا ضمانة بأن القانون سيبصر النور. البلاد نُهِبت لسنوات زمنَ الازدهار. وها هم الناهبون يُجهزون على ما تبقى فيها، زمنَ الانهيار. أما ما يُسمى «دولة»، فاختارت ــــ بملء إرادتها ــــ تفويض أمرها وأمر الناس إلى رياض سلامة.