اقتصاد ميشال عون: عهد الابتزاز بالإصلاحات

لم يكن أسوأ ما في عهد ميشال عون قصوره عن القيام بالإصلاحات الماليّة والاقتصاديّة، أو حتّى عرقلته لهذه الإصلاحات في العديد من المحطّات المفصليّة. قد يكون مغريًا اليوم أن نشير إلى أنّ جنرالًا سابقًا اختار “الإصلاح والتغيير” عنوانًا لتكتّله النيابي ذات يوم، قبل أن يدفن الشعار مع وعود الكتاب البرتقالي في اللحظة التي دخل فيها قصر بعبدا. لكنّ ذلك لم يكن أسوأ ما في الأمر ماليًّا واقتصاديًّا. وقد يكون مغريًا أن نلخّص في مقالٍ اليوم سلسلة الفضائح الماليّة التي غرق فيها عهد الجنرال الآتي ليهزّ المسمار، على ما قالت ذات يوم الأغاني العونيّة القديمة. إلا أنّ ذلك لم يكن أسوأ في ما عهده أيضًا.

حرق الاصلاحات
أسوأ ما جرى في السنوات الست الماضية، وبما مثّل علامة فارقة تميّز بها العونيون عن سائر قوى المنظومة، كان الشروع بحمل لواء المعارك الإصلاحيّة، التي احتاجتها البلاد بالفعل، قبل أن تتحوّل هذه المعارك –بيد العونيين- إلى مجرّد ابتزاز يُمارَس في وجه القوى السياسيّة الأخرى، لتحصيل مكاسب أكبر من كعكة النظام ومنافعه، قبل أن توضع جميع هذه المعارك على الرف بمجرّد تحقيق الغاية الأساسيّة منها. وفي النتيجة، أحرق العهد هذه المعارك، وورّطها في بزارات صفقاته، التي كانت تأتي لتختمها وتحيلها إلى التقاعد.

على هذا النحو بالتحديد يمكن وصف علاقة العهد بحاكم مصرف لبنان منذ اللحظة الأولى. لم يبدِ العهد منذ بداياته الكثير من الود لحاكم المصرف المركزي، الذي مثّل بالنسبة للعونيين تركةً حريريّة تحتل موقعًا مارونيًا متقدّمًا داخل النظام السياسي. بدأ العهد بنغمة “التلطيش” على السياسات النقديّة منذ العام 2016 (راجع المدن)، متحدثًا عن ظاهرة دعم الليرة بالدين، وضرورة الانتقال إلى دعمها بالإنتاج. وقبل أشهر من التجديد لحاكم المصرف المركزي، كان المحسوبون على العهد يرسلون الإشارات في جميع الاتجاهات، للتأكيد على عدم رضاهم عن الحاكم وسياساته، وتاليًا: عدم حماستهم للتجديد له.

بضعة هندسات ماليّة وعمليّات استثنائيّة عوّمت “بنك سيدروس” المستجد على عالم المصارف اللبنانيّة، كانت كافية لترسمل المصرف، الباحث عن أموال خاصّة تدخل المحسوبين على العهد إلى النظام المالي، السخي بالأرباح والعوائد الخياليّة. وتشاء الأقدار أن تتزامن هذه الهندسات مع اقتراح الرئيس التجديد لرياض سلامة من خارج جدول الأعمال، قبل أن يصوّب له وزراؤه داخل الحكومة: تعيينه في ولاية كاملة من ستّ سنوات.

ومنذ تلك اللحظة، ولنحو ثلاث سنوات تلت ذاك التعيين، غابت عن الأجندة العونيّة أولويّات تصحيح السياسة النقديّة، ودعم الليرة بالإنتاج بدل الدين، فيما واظب سيدروس على التهام ما تيسّر من أرباح موجات الهندسات الماليّة المتتاليّة، تمامًا كما فعلت سائر المصارف اللبنانيّة. وثمّة من يشير اليوم بخبث إلى جملة من التسويات التي استجدّت بين العهد والحاكم بعد تلك الهدنة، بما شمل حصّة التيّار في تعيينات المؤسسات التجاريّة المملوكة من المصرف المركزي.

سجالات ما بعد الانهيار
ويوم طرق الانهيار باب العهد في أواخر العام 2019، استعاد العهد والمحسوبون عليه نغمة التصويب على السياسات النقديّة وبقاء حاكم مصرف لبنان في منصبه. إلا أنّ كل تصعيد، أو بالأحرى ابتزاز، كان يليه صفقة من الصفقات التي تشارك فيها رموز العهد أرباح السياسات النقديّة المشوّهة التي صوبوا عليها. فمن تحاصص دولارات الدعم عبر الشركات النفطيّة المحسوبة على العهد، إلى الغرف من عمولات شراء الدولار من السوق الموازية، كان العهد حاضرًا بأزلامه ورجال أعماله، ليجني ثمار ضغطه على حاكم المصرف المركزي. وبعد كل مسرحيّة من مسرحيّات العهد، بأذرعه القضائيّة والأمنيّة والوزاريّة، كان ثمّة صفقة حاضرة لتحصيل ما يمكن تحصيله.

وعلى هامش سجالات الخطط الماليّة والتفاوض مع صندوق النقد، كان يمكن للمراقب أن يرى الأداء المزدوج نفسه. ينتقد باسيل إفشال مسار المفاوضات مع الصندوق وإسقاط خطّة دياب في المجلس النيابي، فيما يشرع العهد بعدها بالتفاهم مع رموز الحكم الآخرين على كيفيّة إحالة الخطّة نفسها إلى التقاعد. يتحدّث باسيل عن تجاوز المجلس النيابي لصلاحيّاته في إسقاط الخطّة، قبل أن يتبيّن أن كتلة العونيين نفسها شاركت في كل هذا المسار، من دون أن يبدي باسيل أي تحفّظ داخل دهاليز المجلس. وفي كل ذلك، كان منسوب الحماسة للإصلاحات يعلو ويهبط، على وقع التفاوض مع سائر القوى السياسيّة على ملفّات أخرى تعنيهم، مرتبطة بدورها بملف التفاوض مع صندوق النقد.. وهنا بيت القصيد!

فبعد أن سقطت الخطّة وتفرمل مسار التفاوض مع الصندوق عام 2020، تبيّن أن العهد استخدم هذا المد والجزر للتفاوض من أجل عرقلة إصلاحات أخرى مطلوبة دوليًّا من لبنان، كخطّة الكهرباء التي أفقدها العونيون مصداقيّتها بعبثهم بعدد ومواقع معامل الإنتاج، واستقلاليّة القضاء الذي عبثت بها بعبدا يوم رمت مرسوم التشكيلات القضائيّة في الأدراج منذ ذلك الوقت. ولسخرية القدر، كان اللبنانيون أمام مرجعيّة سياسيّة تلعب ورقة المطالبة بإصلاحات معيّنة، لعرقلة إصلاحات أخرى يمكن أن تمس بمصالحها. والنتيجة، أسقط العونيون ما أزعجهم من شروط تصحيحيّة، قبل أن يغضوا النظر عن الشروط التي تزعج الأطراف الأخرى. وفي الخلاصة، سقط المسار بأسره مع انفجار مرفأ بيروت وما تلاه من فراغ حكومي طويل.

قد يكون مجحفًا أن يعتبر المرء أن العهد مسؤول عن الانهيار بأسره، بكل ما تضمّنه هذا الانهيار من انكشاف لتشوّهات تاريخيّة في بنية الاقتصاد المحلّي وشكل نظامه المالي وسياساته النقديّة. إلا أنّ الأكيد أن حصول الانهيار في عهد ميشال عون ساهم بتحويل مسار الإنقاذ الاقتصادي، الذي احتاجه لبنان بالفعل، إلى مسار من الابتزاز والابتزاز المضاد، بوجه سائر القوى السياسيّة التي لم تتفوّق على فريق عون بحرصها على مصالح اللبنانيين، ولم تفاضله بشيء.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةآلاف موظفي المصارف بين التسريح والنزوح: الهروب الكبير للكفاءات
المقالة القادمةعودة الكهرباء: زلغوطة وبرنامج متكامل…؟