قبل أيام قليلة على موعد الاستشارات النيابية الملزمة لتسمية رئيس للحكومة، يقف لبنان أمام خيارين لا ثالث لهما: إما تضييع الوقت وصولاً للانهيار الكامل في حال التجديد لنفس التركيبة الحكومية، وإما الانقاذ من خلال اختيار البدائل المناسبة. إنه الامتحان الاصعب في تاريخ لبنان الذي يتطلب من الكتل النيابية، ومن خلفها الاحزاب وضع مصالحها جانباً لمرة واحدة واختيار مصلحة الوطن. فالفشل هذه المرة لا يمكن إصلاحه، وتداعياته ستكون خطيرة جداً على كل المستويات الحياتية.
أخطر ما في التجديد لرموز المرحلة السابقة يتمثل في استئناف العمل بما يطلق عليها إسم «خطة التعافي». فهذه الخطة تتضمن مغالطات في الشكل والمضمون كفيلة بمحو لبنان عن خريطة العالم الاقتصادية، بحسب خبراء «الجمعية الاقتصادية اللبنانية» الذين تداعوا لعقد مؤتمر صحافي في «نادي الصحافة» لاطلاع الرأي العام على المخاطر المترتبة على التأخر بتنفيذ الاصلاحات الاقتصادية والمالية، وأثرها السلبي على الودائع والاقتصاد. فقدموا الحلول وعرضوا الخطوات الاصلاحية سريعة التنفيذ التي تستهدف الحفاظ على حقوق جميع المودعين واعادة الثقة وانعاش الاقتصاد، بالاستناد إلى مشاركة كافة شرائح المجتمع اللبناني».
خطيئة الخطط
المغالطة الاولى التي تسجلها «الجمعية الاقتصادية» اللبنانية في الشكل هي تسويق «استراتيجيّة النهوض بالقطاع المالي» لحكومة الرئيس نجيب ميقاتي على أنها خطة، مع العلم أن الفرق شاسع بين الخطة والاستراتيجية. فالاخيرة عامة وتتطلب سنوات عدة للتنفيذ وعلى مراحل ولا يمكن تطبيقها في غضون أشهر قليلة. في حين أن الخطة تكون قريبة المدى وتصيب اهدافاً محددة بدقة. هذا من دون التطرق إلى المعارضة الشرسة لاستراتيجية الحكومة لاسباب سياسية عند البعض وتقنية اقتصادية عند البعض الآخر من أصحاب الاختصاص. أما في المضمون فان «الاستراتيجية التي تبرئ المودع، تحمله في المقابل الكلفة الاكبر، إن لم نقل كل العبء»، بحسب رئيس الجمعية د. منير راشد. فهذه الاستراتيجية تقوم على إلغاء ودائع بقيمة تصل إلى 70 مليار دولار. الأمر الذي سيزعزع ثقة المودع بالاقتصاد والدولة، وينفر المستثمرين والمتمولين من لبنان في المستقبل. وهي لا تأخذ بعين الاعتبار النتائج الوخيمة لتسديد الودائع التي تفوق 100 ألف دولار بغير عملتها الاصلية. والتي ستؤدي إلى انهيار القدرة الشرائية أكثر وتعميق الركود وانعدام القدرة على النهوض بالاقتصاد والمحافظة على المؤسسات».
يتطلب شطب الودائع بما تمثل من مطلوبات، شطب قيم مماثلة من الموجودات، ومن ضمنها القروض على القطاعين الخاص والعام والودائع في مصرف لبنان. هذا المبدأ البسيط في المحاسبة ستنتج عنه إفلاسات بالجملة في القطاع المصرفي، مع العلم أن الكثير من قروض القطاع الخاص مأخوذة مقابل ضمانات»، بحسب راشد. و»هذا ما لم تلحظه الخطة، مثله مثل عدم جواز شطب ديون الدولة. فالدول المدينة وهي كثيرة جداً تحرص على إيجاد الطرق المناسبة لخدمة دينها وليس شطبه بجرة قلم، وإلا لأفلس العالم ولم يعد من دائن يقرض الدول قرشاً واحداً. وبرأي راشد فان «الخطأ الكبير الذي اقترفته السلطتان السياسية والنقدية كان توقف مصرف لبنان عن إمداد المصارف بالسيولة في بداية الأزمة. مع العلم أنه كان يملك احيتاطيات نقد صعب بقية 44 مليار دولار اميركي. فهذا التوقف الذي نتج عنه سعران للصرف، خلق حالة من الهلع وعدم الثقة، جعلت هدف المودعين سحب كل ما يملكونه في المصارف لتخزينه أو إخراجه من لبنان. وعند هذه المرحلة بالتحديد يستحيل على أي نظام مصرفي تلبية مثل هذا النوع من الطلب».
8 أشهر تفصلنا عن الانهيار الشامل
انطلاقاً مما تقدم «لا يجوز وضع الخطط على حساب المودعين بأي شكل من الاشكال»، يقول الخبير الاقتصادي والمصرفي نيكولا شيخاني. و»الحل الانجع لم يكن ولن يكون شطب الودائع. فالدولة اللبنانية غنية وتمتلك أصولاً كثيرة قابلة للتطوير والاستفادة منها لارجاع دينها، من دون أن نعني بالطبع بيع هذه الاصول، إنما تفعيلها وزيادة انتاجيتها من خلال الادارة السليمة. ولعلّ أبسط مثال على ذلك واقع قطاع الاتصالات الخاسر الذي كان يدخل على لبنان حوالى 1.5 مليار دولار في السنة. وعليه يرى شيخاني أن الخطوات الواجب اتباعها فوراً هي:
– إصدار قانون لحماية الودائع.
– دعوة النواب إلى الاجتماع على فكرة الانقاذ واختيار الشخصية المناسبة لرئاسة الحكومة.
وفي حال العكس فان البلد سيصمد 8 أشهر بالحد الاقصى، أي إلى حين نفاد النقد الصعب من المركزي. عندها سيترحم اللبنانيون على سيناريو فينزولا.
ترشيح النصولي لرئاسة الحكومة
على الرغم من ضجيج الخطط والاتفاقيات ظلت السلطة تتحين الفرصة السانحة لتحقيق الاصلاحات دفعة واحدة، «مع العلم أن الإصلاح يكون تدريجياً»، برأي د. منير راشد. وفي أحيان كثيرة غير مكلف، كتحرير سعر الصرف على سبيل المثال. و»للوصول إلى مرحلة تطبيق هذه الاصلاحات بسرعة وفعالية، بغض النظر إن وقعنا اتفاقاً مع صندوق النقد الدولي أو لم نوقعه، يتطلب الأمر وجود شخص مسؤول، فعال ومنزه عن الحسابات الضيقة في سدة القرار. من هنا كان توجهنا في «الجمعية» إلى تسمية الدكتور صالح النصولي لرئاسة الحكومة كونه الشخص المناسب، ويتمتع بالخبرة العالمية في إيجاد الحلول الاقتصادية الناجعة والفعالة، وله باع طويل لأكثر من 40 سنة في العمل في أرفع مناصب صندوق النقد الدولي. وقد عمل النصولي كرئيس دائرة لتقييم البرامج والاتفاقيات بين الدول و»الصندوق». ومن الممكن أن يتوصل إلى تحسين شروط التفاوض والتوقيع مع الصندوق في غضون أقل من شهرين ويلتزم في تطبيق الاصلاحات».
«اليوم لحظة الحقيقة، لحظة ولادة الحلول الناجعة بعد المخاض المستمر منذ العام 2019»، يقول الكاتب في الاقتصاد السياسي وعضو الجمعية الاقتصادية اللبنانية د. بيار الخوري. فـ»إما النهوض وإما الاستمرار في الانهيار الذي لا قعر له. ما يحدد الفرق هو الشخصية التي ستكلف تشكيل الحكومة. من هنا كانت تسميتنا ودعمنا لصالح النصولي. فهو من الشخصيات الوازنة على المستوى الدولي، لها موقعها ومصداقيتها ومشهورة بنظافة كفها وحياديتها وعلاقاتها مع الحكومات الاجنبية والمؤسسات الدولية. فهل يحسن لبنان الاختيار هذه المرة؟!