ابتداءً من مطلع السنة الماضية، لاحظ المقيمون في لبنان، ارتفاعاً كبيراً في الأسعار لم يؤدّ فقط إلى تراجع حادّ في القدرة الشرائية لمن مداخيلهم بالليرة، إنما أصاب أيضاً من لديهم مداخيل بالدولار. هذا المسار كان حتمياً بسبب فوضى التعامل مع الأزمة من إفلات سعر الصرف على غارب التعدّدية، مروراً بتدخّل الدولة من خلال الدعم العشوائي، وصولاً إلى تشريع الدولرة بقرارات رسمية
عندما انفجرت الأزمة النقدية والمصرفية في لبنان، بدأت الأسعار تنخفض بالنسبة إلى من مداخيلهم بالدولار النقدي. شعر الكثيرون بهذا الأمر. لا بل تحوّل نمط استهلاك الفئات التي كانت تتقاضى رواتبها بالدولار، أو تُحوّل إليها بضع مئات من الدولارات من الخارج، إلى نوع من الترف، إذ أتيحت لهؤلاء الاستفادة من قوّة دولاراتهم مقابل انهيار الليرة. وصل الأمر في ذروته خلال فترة الدعم التي شملت 300 سلعة، من أبرزها المحروقات والمواد الغذائية الأساسية والأدوية. ومع نهاية الدعم واكتمال دورة الدولرة النقدية عادت الأسعار إلى مستوياتها السابقة لتتوقف مفاعيل مميزات أصحاب المداخيل المدولرة. اللافت، أن أولئك الذين اعتبروا أن الدولرة النقدية الشاملة أو شبه الشاملة، هي التي سترسي الاستقرار في السوق لأنها تلغي مفاعيل انهيار الليرة، اكتشفوا بمرور الوقت أن هذه الدولرة سواء كانت مقصودة أو فرضتها الظروف المعيشية الصعبة، تحوّلت إلى عامل أساسي يضغط في اتجاه رفع الأسعار. وبالتالي أدّى ذلك إلى انخفاض القدرة الشرائية حتى بالنسبة إلى من لديهم مداخيل بالدولار، سواء أتت هذه المداخيل على شكل دولارات نقدية مخزّنة في المنازل، أو على شكل أجور ورواتب، أو مساعدات من منظّمات خارجية أو تحويلات من أبنائهم وذويهم العاملين في الخارج.وثّق الوزير السابق شربل نحاس، هذه التطوّرات بواسطة نموذج إحصائي تحليلي يستند إلى مؤشرين: تطوّر سعر الليرة مقابل الدولار، وتضخّم الأسعار بحسب مؤشّر إدارة الإحصاء المركزي. وبقياس التضخّم نسبة إلى سعر الدولار، تبيّن له أن الأسعار عادت إلى مستويات ما قبل الأزمة حتى مع كل الدولرة التي يشهدها السوق. فمنذ نهاية 2018 إلى نهاية 2023، تضاعف سعر الدولار مقابل الليرة نحو 59.3 مرّة. وبالتوازي تضخّمت أسعار السلع والخدمات بنحو 60 مرّة. في هذه الفترة حصلت تطوّرات كبيرة ومتسارعة على ضفتَي الأسعار وسعر صرف الدولار، لكن يمكن تلخيصها بثلاث مراحل: الأولى تتعلق بالتداعيات الفورية للأزمة، وبالدعم المحدود والارتفاع في سعر الدولار من دون قفزات كبيرة. والثانية تمثّلت في توسيع الدعم. وفي المرحلة الثالثة أُوقف الدعم وبدأت تصدر قرارات رسمية تسمح بدولرة الأسعار الداخلية.
تبيّن أن كذبة الدولرة لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تكون علاجاً
في المرحلة الأولى سجّل ارتفاع في سعر الصرف وتيرته أعلى من ارتفاع الأسعار. وفي هذه المرحلة أيضاً، كانت الأسعار الداخلية منخفضة لأسباب متعدّدة من أبرزها دعم مصرف لبنان لبعض السلع (مثل المحروقات والدواء والقمح) والتي تمثّل ثقلاً أساسياً في الاستيراد والاستهلاك المحلّي. فللمحروقات انعكاسات شاملة على الاقتصاد لا تقتصر على سعرها فقط لأنها تدخل في عمليات الإنتاج وفي سلاسل التوريد بشكل واسع. لذا، كانت الأسعار منخفضة نسبياً بالإضافة إلى انخفاض كلفة العمّال وانخفاض الأرباح المتوقّعة من أصحاب الأعمال. والمقصود بالأسعار «الداخلية» هنا هو الخدمات المُنتجة داخل البلد، مثل المطاعم والمشروبات غير الروحية والأغذية… ففي حين انخفضت القيمة الشرائية لليرة، ارتفعت القدرة الشرائية للدولار بشكل كبير.
يعتقد نحاس أنه كان يمكن استغلال هذا الواقع لإعادة بناء قطاعات إنتاجية تُسند التعافي الاقتصادي. تاريخياً، كان العائق الأوّل أمام الإنتاج في الاقتصاد اللبناني هو ارتفاع كلفة الإنتاج، وأحد أهم عوامل ارتفاع هذه الكلفة، خصوصاً في حقبة ما بعد الحرب الأهلية، كان ارتفاع كلفة اليد العاملة في لبنان، بالإضافة إلى ارتفاع كلفة المواد الأوّلية. لكن مع الانهيار والدعم، انخفضت كلفة اليد العاملة إضافة إلى كلفة بعض المواد الأولية. وأسهم الانخفاض في هوامش الربح التجارية، في انخفاض الأكلاف بشكل إضافي. كانت هذه فرصة الدولة لدعم الاستثمارات في القطاع عبر الإقراض بدلاً من دعم السلع التي كلّفت احتياطات مصرف لبنان مليارات الدولارات من دون أي فائدة اقتصادية.
في المرحلة الثالثة، جرى توسيع الدعم ليشمل نحو 300 سلعة إضافة إلى السلع الأساسية. أسهم ذلك في استقرار القدرة الشرائية للدولار، أو لمن مداخيلهم بالدولار، لفترة امتدت من تموز عام 2020 حتى تشرين الثاني 2021، أي إلى حين رفع الدعم في صيف 2021. وفي هذه الفترة أيضاً، استقرّت العلاقة بين سعر الصرف وتضخّم الأسعار، فلم تُسجّل متغيرات كبيرة وظلّ ارتفاع سعر الصرف يسبق ارتفاع باقي الأسعار. إلا أنه بعد رفع الدعم، فقد الدولار جزءاً من قدرته الشرائية في الاقتصاد اللبناني بسبب التسارع في تضخّم الأسعار لكنّ الخسارة لدى المداخيل بالدولار لم تكن كبيرة واستقرّت بشكل نسبي حتى مطلع 2023.
في المرحلة الثانية، التي بدأت في آذار 2023، عادت الأسعار الداخلية إلى الارتفاع بوتيرة مطّردة مدفوعة بقرارات صدرت عن وزارات وإدارات رسمية تسمح بتسعير وتحصيل أسعار السلع بالدولار. بدأت الدولرة في وزارة الطاقة ثم في وزارة السياحة وصولاً إلى وزارة الاقتصاد. أسهم ذلك في ارتفاع أسعار السلع والخدمات بالدولار وبتراجع القدرة الشرائية للدولار في الاقتصاد اللبناني. ففي سوق مثقل بالاحتكارات، وبحرية التسعير وبغياب أي نوع من الرقابة الفعلية، ارتفعت الأسعار بوتيرة مماثلة لارتفاع سعر الصرف وبدأت تظهر الوقائع العميقة والحقيقية في الاقتصاد اللبناني. هنا تبيّن أن كذبة الدولرة لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تكون علاجاً، بل هي وباء يتيح للتجّار الاستفادة من التدفقات الآتية من الخارج (سواء على شكل رواتب أو مساعدات من منظمات ودول، أو على شكل تحويلات مغتربين) وتصحيح هوامش ربحيتهم وتعزّز موقعهم التفاوضي ضمن هرمية السوق لتصبح قوّة العمل في أدنى وأضعف مواقعها، أي إن الأجور لا تكون لديها فرصة العودة إلى مستوياتها السابقة في ظل انكماش الاقتصاد وتقشّف الدولة عن الإنفاق.
رغم ذلك، يقول رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أثناء مناقشات موازنة 2024 إن لبنان انتقل إلى «التعافي»، ولكن الأجدى هو القول إنه «سوء التعافي».