أيام تثبيت سعر الصرف كانت الأسر تعتمد بشكل كبير على تحويلات المغتربين لتعزيز مداخيلها. فالسياسات التي اتُّبعت في تلك الفترة كانت قائمة على تعزيز نموّ الأرباح على حساب الأجور. حصّة الأجور من الناتج كانت تتقلّص بشكل متواصل، في مقابل نموّ حصّة الأرباح. هذا هو المكوّن الأساسي في نموّ الناتج المحلي الإجمالي والذي نتج منه تشوّهات اقتصادية واجتماعية واسعة يمكن التعبير عنها في الفرق بين المداخيل المتولّدة محلياً، وبين المداخيل المتاحة فعلياً. أما الآن، وبعد انهيار تثبيت سعر الصرف، صار التشوّه أكبر وبات اعتماد الأسر على تحويلات المغتربين مفرطاً جداً. فالمداخيل المتولّدة محلياً، في ظل انهيار الليرة، بالكاد تكفي لسدّ جزء بسيط من حاجات الأسر، بينما الدخل المتاح عبر تحويلات المغتربين صار أكبر، وهذا ما يمكن رؤيته من خلال نسبة التحويلات من الناتج التي ارتفعت من 14.5% إلى37%، ومن خلال زيادة نسبة استهلاك الأسر من الناتج من 80% إلى 120%
إذاً، كيف تحسّن الاستهلاك بينما ما زال الوضع الاقتصادي سيئاً؟ للإجابة على هذا السؤال من المهم النظر إلى المصادر الخارجية التي تموّل الاقتصاد. وهي في العادة تأتي من مكانين: الأوّل هو الصادرات، التي لم تشهد تحسّناً بارزاً خلال الأزمة، علماً أن انخفاض قيمة العملة كان يجب، نظرياً، أن ينعكس بشكل إيجابي عليها. أما المصدر الثاني للأموال هي التحويلات من الخارج، التي بقيت مستقرة خلال سنوات الأزمة. ورغم ذلك، أصبحت نسبة التحويلات إلى الناتج المحلّي أكبر مع الأزمة، وذلك لأنها لم تتغيّر كثيراً عن مستويات ما قبل الأزمة، ولأن الناتج المحلّي تقلّص بشكل كبير. ففي عام 2022 بلغت التحويلات من الخارج نحو 37% من الناتج المحلّي، ما يمثّل ارتفاعاً من نسبة 25.6% في عام 2020 و14.5% في عام 2019.
تساهم التحويلات في رفع الدخل المتاح للأسر اللبنانية (دخل الأسر هو المصرّح عنه بينما الدخل المتاح يضاف إليه مداخيل لا تحتسب في الناتج مثل تحويلات المغتربين)، خصوصاً خلال السنوات الأخيرة التي شهدت انخفاضاً كبيراً في الأجور بعدما خسرت الليرة أكثر من 98% من قيمتها. الملاحظ أنه بعد انهيار القطاع المصرفي، أصبحت التحويلات تدخل بشكل مباشر في الاقتصاد النقدي، وهو أحد العوامل الأساسية التي ساهمت في ارتفاع حجم الاستهلاك في الاقتصاد. إذ يحتمل البنك الدولي أن يكون النمو في حجم الاقتصاد النقدي (اقتصاد الكاش) في عامَي 2021 و2022 محركاً كبيراً لزيادة الاستهلاك الخاص. ومع أن تقديرات البنك الدولي لحجم الاقتصاد النقدي قد لا تكون دقيقة، إلا أنها أقرب ما لدينا إلى الواقع.
– العامل الأوّل، هو أنه مع انخفاض القدرة الشرائية لمداخيل الأسر الأساسية، أصبح عند هؤلاء حاجات استهلاكية ناقصة، ما يعني أن توافر التحويلات في يدهم بشكل مباشر يعني أن تذهب هذه الأموال إلى الاستهلاك، وهو ما يسهم في إعادة نمو الاستهلاك المفقود في الاقتصاد
في السنوات السابقة
– العامل الثاني، هو انهيار القطاع المصرفي، وفقدان دوره كحافظ للثروات، إذ تلجأ معظم الأسر اليوم إلى ادخار ثرواتها في المنازل، وهو أمر غير آمن. لذلك، قد يكون استهلاك الحاجيات بديلاً أكثر أماناً عن حفظ الأموال في المنازل، وهو ما يزيد تلقائياً الاستهلاك في الاقتصاد.
من ناحية أخرى، يشرح البنك الدولي أن الزيادة في الاستهلاك الخاص أتت أيضاً بسبب استقرار نشاط القطاع الخاص وزيادة دولرة الأجور، إذ شهدت الأجور تصحيحاً، ولو نسبياً، في قيمتها حيث تحوّل جزء لا بأس به منها إلى الدولار. وهو أمر انعكس بشكل إيجابي على قدرة الأسر على الاستهلاك مقارنة بالسنوات الماضية.
لكن ليس البنك الدولي وحده من لاحظ وجود مسار اعتماد مفرط على التحويلات، إذ يشير تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة برنامج الإنمائي (UNDP) إلى تزايد دور وأهمية تحويلات العاملين في الخارج في لبنان، معتبراً أن هناك تحوّلاً ملحوظاً في دور هذه التحويلات في الاقتصاد. وهذا الأمر يدفع نحو التمييز بين الدور الذي لعبته التحويلات قبل الأزمة، عندما كانت توفّر دعماً ثانوياً في الاقتصاد، إذ كانت توفر “الدعم الاجتماعي في ظل غياب شبكة أمان اجتماعي رسمية شاملة”. بمعنى آخر، قبل الأزمة كان الدور الذي تلعبه التحويلات اجتماعياً أكثر من كونه اقتصادياً. لكن بعد بداية الأزمة، أي في عام 2019، تميّز دور تحويلات العاملين في الخارج بكونه اقتصادياً واجتماعياً. إذ أصبحت هذه التحويلات تُشكّل ثقلاً وازناً في الاقتصاد اللبناني، وتسهم في سدّ فجوة ميزان المدفوعات بشكل أساسي بعد غياب مصادر التدفقات النقدية الأخرى. هذا الأمر حال دون حصول انهيار اقتصادي أكبر، إذ يُمكن وصف سيناريو عدم الحصول على هذه التحويلات بالكارثي. فمن دون التحويلات لا يتوفّر مصدر لسداد فاتورة الاستيراد الكبيرة التي يعتمد عليها اللبنانيون في استهلاكهم، ومن ناحية أخرى تساهم هذه التحويلات في حفاظ الليرة اللبنانية على بعض من قيمتها بسبب توفيرها للدولار في السوق وإشباع جزء من الطلب عليه. بشكل عام ساهمت التحويلات في الحفاظ على قدرة الأسر اللبنانية على تأمين حد أدنى من الاستهلاك الأساسي، وهو الذي تضرر بشكل كبير بعد انهيار قيمة الليرة.