زيادة في الاستهلاك تُخفي البؤس: صناعة الهجرة والتحويلات

لطالما شكّل الاستهلاك الجزء الأكبر من الناتج المحلّي اللبناني، لكن بعد عام 2019، ازداد حجم الاستهلاك وبات يشكّل نسبة أكبر من الناتج حتى بلغ في عام 2021 نحو 120% منه. هذا الأمر يُعبّر عن حال الاقتصاد اللبناني، وتمظهر التشوّهات بشكل أكبر بعد الأزمة والانهيار.

لذا، فإن ارتفاع حجم الاستهلاك بالنسبة إلى الناتج المحلّي اللبناني يعني، بشكل أو بآخر، انكماش الحركة الاقتصادية الحقيقية، القائمة على الإنتاج، في مقابل ارتفاع حصّة الشق القائم على التجارة. وبسبب طبيعة الأزمات التي يكون فيها أفضلية لأصحاب الرساميل في تعزيز أرباحهم قبل تعزيز أجور العاملين لديهم، فإن الزيادة في الاستهلاك تعبّر عن خسارة أكبر في الأجور وانخفاضاً في الحركة الإنتاجية وخسارة إضافية في الأعمال وحتى يمكن أن تصل إلى اندثار بعض القطاعات. لكن ما معنى أن ترتفع نسبة استهلاك الأسر إلى أكثر من مجموع الناتج المحلي الإجمالي بنحو 20%؟ فهل هو أمر صحّي أن يكون هذا الاستهلاك موازياً للناتج أصلاً؟

عملياً، إن زيادة حصة الاستيراد من الناتج في سياق زيادة نسبة استهلاك الأسر من الناتج، تعني أن الارتهان للتدفقات الآتية من الخارج بات، وأن التشوّه القديم في الاقتصاد الذي كان يعتمد على التدفقات الخارجية لتمويل الاستهلاك المحلي، ازدادت بشاعته لجهة فجوة اللامساواة في الدخل والثروة، ولجهة فقدان الأمل في تعزيز القدرات الإنتاجية المحلية. صحيح أن التحويلات المالية الآتية من الخارج تعزّز مداخيل الأسر المصرّح عنها بأكثر من 30%، لكن هذا المعدل يفترض أن يكون التعزيز متساوياً للجميع. ففي سياق حسابات عامة يمكن اعتماد المعدّل، إنما في إطار دراسة عن الأوضاع المعيشية للأسر، فالأكثر ترجيحاً أن هناك أسر تتلقى تحويلات مالية خارجية تضيف إلى دخلها أكثر من 30% بينما هناك أسر تتلقى دخلاً إضافياً بنسب أقلّ. هنا تحديداً تتسع فجوة اللامساواة إلى جانب التدهور الأكبر في النشاط الاقتصادي على مستوى الاستثمار، سواء من القطاع الخاص أو العام، أو على مستوى خلق الوظائف.

الآن، هذه التحويلات تجمّل الأرقام وتخفي في طياتها بؤس العيش لأنها لا تكشف فعلاً عن مستويات المعيشة والتفاوتات الهائلة التي أصابت الأسر والتداعيات التي ستطرأ عليها في الفترة المقبلة. فالهجرة لن تكون فقط خياراً يستجيب للأزمة، بل ستكون خياراً مستداماً، ولا سيما للفئات العمرية التي ستتخرّج من الجامعات. صناعة الهجرة هي التي أصبحت مستدامة، والتغييرات التي ستطرأ على المجتمع بسبب ذلك ستكون كارثية. هذه الصناعة ستموّل العيش البائس لمن بقي في لبنان.

المادة السابقةالاعتماد المفرط على الخارج
المقالة القادمةتحويلات من أجل الغذاء والسكن