منذ نحو ربع قرن، يدور اقتصاد لبنان في حلقة مفرغة من «السياسات» التي يقررها مصرف لبنان، بشخص حاكمه رياض سلامة. غالبية السلع المستهلكة في لبنان هي مستوردة، وثمنها يُدفع بالدولارات التي يستجلبها مصرف لبنان عبر أدوات مثل الفائدة. يُنتِج هذا المسار نمواً كبيراً في أرقام القطاع المصرفي، من دون أن يكون تضخّم هذه الأرقام إيجابياً على الدوام. في المقابل، تؤدي سياسات مصرف لبنان إلى خنق الاقتصاد، إذ لا استثمارات تخلق فرص عمل جديدة أو تزيد الصادرات!
يكاد يختنق لبنان بكل هذه الودائع في القطاع المصرفي. من أصل 183 مليار دولار مودعة في المصارف حتى شباط 2019، ثمة 134.4 مليار دولار تودعها المصارف لدى مصرف لبنان (حسب أرقام جمعية المصارف)، و50.4 مليار دولار تسليفات للقطاع الخاص المحلي. وقياساً على الناتج المحلي الإجمالي الذي يقدّره صندوق النقد الدولي بنحو 56.7 مليار دولار، فإن إجمالي الأموال المودعة لدى مصرف لبنان تمثّل 237% من الناتج، والتسليفات تمثّل 88.9%. هذا معناه أن اقتصاد لبنان ليس قادراً على استيعاب كل هذه الودائع، ما يثير أسئلة بديهية: لماذا تأتي كل هذه الودائع؟ هل هي فعلاً مفيدة للاقتصاد؟ لماذا نحن بحاجة إليها؟ ما هو أثرها الاجتماعي؟ من يقرّر كيف تتدفق هذه الودائع؟
فوائد قاتلة
هذه الأرقام ليست سوى عيّنة من المؤشرات التي تدلّ على هيمنة السياسات النقدية على النشاط الاقتصادي. فقد برز في السنوات الأخيرة ما هو أسوأ، إذ بدأت أسعار الفوائد تشهد ارتفاعات قياسية. وصلت معدلات فائدة الودائع على الليرة إلى 18%، فيما تصل معدلات فائدة القروض بالليرة إلى 23%. أما معدلات فائدة الودائع بالدولار فتتجاوز 10%، فيما معدلات فائدة القروض بالدولار تتجاوز 12%.
هذا المستوى من معدلات الفوائد يعدّ قاتلاً للقطاعات الاقتصادية والاستهلاك. وبالفعل، فإن التسليفات المصرفية تراجعت من 53.4 مليار دولار في نهاية كانون الأول 2017 إلى 50.4 مليار دولار في نهاية شباط 2019، أي خلال سنة وشهرين تراجعت التسليفات المحلية للقطاع الخاص، بقيمة 2.98 مليار دولار وما نسبته 5.5%. ومن أصل هذا التراجع، هناك 1.59 مليار دولار تراجعاً في التسليفات بالليرة، و1.38 مليار تراجعاً في التسليفات بالدولار.
إذاً، القطاعات تختنق من ارتفاع أسعار الفائدة أو كلفة التمويل، فيما يغصّ مصرف لبنان بالأموال وتحقق المصارف أرباحاً طائلة منها. هذا الأمر يقود نحو استنتاج ينطوي على دلالات بالغة الأهمية: لبنان يعالج أزمته من خلال رفع أسعار الفائدة عبر أدوات غير تقليدية كالهندسات المالية أو عبر الفائدة من أجل احتواء السيولة ومنعها من التدفق إلى السوق. لهذا السبب ارتفعت ودائع المصارف لدى مصرف لبنان بقيمة 30.9 مليار دولار خلال سنة وشهرين، وارتفعت بقيمة 63.8 مليار دولار منذ مطلع 2016 لغاية شباط 2019.
شربل نحاس: السياسات النقدية هي الوجه الأكثر تطرّفاً لظاهرة التورّم المالي
سياسات نقدية متطرفة
وتيرة الزيادة في ودائع المصارف لدى مصرف لبنان مقابل تراجع التسليفات للقطاع الخاص المحلي وارتفاع أسعار الفوائد ليست سوى امتداد للسياسات النقدية التي نفذها مصرف لبنان على مدى ربع قرن. وهذه السياسات، برأي الخبير الاقتصادي والمالي شربل نحاس، ليست سوى الوجه الأكثر تطرفاً للسياسات النقدية المتبعة في العالم بعد فكّ الارتباط بين الدولار والذهب. فمنذ ذلك الحين، بدأت كمية الدولارات المطبوعة تتضخم بوتيرة هائلة قياساً على قدرة الاستثمار الاقتصادي. إلا أنه في حالة لبنان، هناك فرق يؤثّر بوتيرة تضخم هذا الورم المالي الناتج من هذه السياسات. تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار هو أحد هذه العوامل المؤثّرة لأنه يتطلب استمرار تدفقات الرساميل وإبقاء الفوائد المحلية أعلى من الفوائد العالمية، مع ما يترتب على هذه التدفقات الكبيرة من أكلاف إضافية. وفي لبنان أيضاً، هناك عامل ثان يتعلق بالاستهلاك المحلي القائم على الاستيراد بشكل كبير. في 2018 بلغت قيمة الواردات 20 مليار دولار، مقابل صادرات بقيمة 3 مليارات دولار، أي أن العجز التجاري بلغ 17 مليار دولار.
ومن أحد أشكال تطرّف هذه الظاهرة في لبنان، مقارنة مع الخارج، أن بعض الدول التي تعاني هذا الورم المالي، نفذت سياسات توظيف خارجي للأموال، لكن السياسات النقدية في لبنان حصرت توظيف الأموال محلياً، ما يعني أن الورم يكبر من دون علاج. يظهر هذا الأمر بوضوح في ميزانيات المصارف التي باتت تمثّل خمسة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي.
تضييق فرص الاستثمار
انطلاقاً من هذا الواقع، يفسّر الخبير الاقتصادي كمال حمدان تراجع التسليفات المصرفية. يشير إلى أن تثبيت سعر الصرف يتطلب الإمساك بالسيولة حتى لا تخلق طلباً على الدولار. لهذا، فإن “تراجع التسليفات جاء نتيجة سياسات مصرف لبنان الرامية إلى كبح جماح الطلب على الدولار. الأمر مرتبط بنمط سائد أدّى إلى تضييق فرص الاستثمار المجدية في ظل هذا الهمّ النقدي. كل الإجراءات التي يأخذها مصرف لبنان تصب في خدمة السياسات النقدية، وهذا ما جعل وجود الطاقة الاستيعابية للتسليفات محدودة نتيجة مقومات اقتصادية جرى دولبتها كنتاج لغلبة النمط الريعي. في النتيجة، لم تعد شرايين الاقتصاد تحتمل المزيد من التسليفات. فالثقل الفعلي في الاقتصاد اللبناني قائم على نحو 5 آلاف شركة من أصل 200 ألف في لبنان، فيما بدأت هذه الشركات تتأثّر سلباً بارتفاع معدلات الفائدة. وفي وقت يكاد يكون فيه النمو معدوماً، والتصدير مضروباً، فإن لبنان خسر أيضاً تجارة الخدمات مع الخارج التي كانت، جزئياً، تصحّح ميزان التبادل الخارجي. في ظل هذه المتغيرات، الاقتصاد يدور في حلقة مفرغة”.
كمال حمدان: هناك نمط في تضييق فرص الاستثمار نتيجة غلبة النمط الريعي
وسيط للفساد
إذاً، هناك الاستقرار النقدي الذي يتغذى على الورم المالي، في مقابل ضعف آليات الاقتصاد على تحويل الأموال الإضافية إلى استثمارات تخلق فرص العمل وتزيد الصادرات. هذه السياسات المتطرفة أو الشاذة، ليست حديثة النشأة. بحسب الخبير الاقتصادي إيلي يشوعي، فإن “كل ممارسة يقوم بها المصرف المركزي قامت ولا تزال على فوائد غير طبيعية وغير ملائمة للاستثمار، لا لحفز الاستثمار ولا لحفز النمو. الفوائد تفيد نسبة بسيطة من اللبنانيين، فيما هي في الواقع تعاقب القطاع العام لأنه الأكثر استدانة، وهي تعاقب القطاع الخاص الذي بات يعاني كلفة مرتفعة للاقتراض مقابل مردود متدنّ على استثماراته. هكذا تعطل الاستثمار وتعطّل النمو”.
كان يفترض أن يكون همّ مصرف لبنان الاستقرار النقدي، “لكن همّه كان تثبيت سعر الصرف. المفترض أن تضع النقد في خدمة الاقتصاد وليس الاقتصاد في خدمة النقد. هناك فرق بين الاستقرار النقدي والتثبيت النقدي. على مدى 25 سنة، جلس حاكم مصرف لبنان في المنتصف بين السياسيين وأصحاب المصارف، ونفّذ ما يسمى هندسات أو عمليات إغراء لاستجلاب الأموال وتراكمت الفوائد وازدادت الديون. المصرف المركزي والمصارف تتحمل هذه الدرجة العالية من الفساد”.
نهب اجتماعي
وفي لبنان، كما في كل العالم، نتج من هذه السياسات فجوة هائلة بين المداخيل والثروات. بمعنى أكثر وضوحاً، إن التورّم المالي خلق اختلالاً كبيراً في توزيع الثروة في داخل المجتمعات وبين الدول أيضاً “ناس معهم ثروات هائلة وناس مديونون” وفق تعبير نحاس. إلا أن نحاس يشير إلى أمر مهم يتعلق بتركّز الثروة الذي يتطلب خلق مجالات للربح يتم ابتداعه بأشكال مختلفة؛ أبرزها في لبنان القروض المدعومة. المشكلة أن قيمة هذه القروض بلغت 15 مليار دولار، وفق أرقام الوزير منصور بطيش، لكن لا أحد يعلم مدى فاعليتها. حمدان يعتقد بأن هناك حاجة ضرورية لإجراء تقييم الأثر الناتج الاقتصادي والاجتماعي لسياسات القروض المدعومة التي تم اللجوء إليها كنوع من تلطيف أثر السياسات النقدية على الاقتصاد. فهل خدمت الأهداف المنشأة من أجلها، أم أنها عمّقت الاختلالات؟ الأرجح، وفق المعطيات المتوافرة عن المستفيدين من هذه القروض، أنها لم تكن مخصصة للفئات الفقيرة، بل استفاد منها أصحاب الثروات أكثر من غيرهم.
سياسة مخالفة للقانون
على مدى ربع قرن مضى، نفّذ مصرف لبنان سياسات نقدية ضمن مهمة تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار، علماً بأنها واحدة من أربعة مهمات ملقاة على عاتق المصرف بموجب المادة 70 من قانون النقد والتسليف التي تربط بين الحفاظ على النقد وتأمين أساس لنمو اقتصادي واجتماعي دائم من خلال: المحافظة على سلامة النقد اللبناني، المحافظة على الاستقرار الاقتصادي، المحافظة على سلامة أوضاع النظام المصرفي وتطوير السوق النقدية والمالية.
لم يؤمن مصرف لبنان الربط المنصوص عليه في المادة 70. فاللبنانيون كانوا يعيشون تحت وطأة القلق المتواصل من انهيار في سعر الصرف، ولم يشهد النشاط الاقتصادي، في أي فترة من الفترات، استقراراً، بل كانت هناك تذبذبات حادّة أدّت في أكثر من مرّة إلى أزمات كبرى استدعت استجلاب تدخّلات من جهات مانحة خارجية تمثّلت في مؤتمرات الدعم في باريس 1 وباريس 2 وباريس 3، وأخيراً باريس 4 المعروف باسم “سيدر”.