البرلمان يلعب بالنار: جمعية المصارف أهم من صندوق النقد!

من الاعتمادات الإضافيّة التي تم إقرارها من خارج أي موازنة متكاملة، إلى قرض استيراد القمح، وصولًا إلى صيغة تعديلات قانون السريّة المصرفيّة الركيكة والهجينة، والتي أفرغت القانون من أهدافه الأساسيّة، لم تكن جلسة الهيئة العامّة للمجلس النيابي اليوم سوى عمليّة ترقيع تشريعيّة عشوائيّة. الترقيع يبدأ من منح السلطة التنفيذيّة هامش الإنفاق الإضافي عبر الاعتمادات التي تم التصويت عليها، بدل انتظار الموازنة ورصد الإيرادات المطلوبة لتمويلها، وينتهي بمواءمة تعديلات السريّة المصرفيّة مع هواجس وأولويّات المصارف، لتمريرها كشرط من شروط صندوق النقد على عجل، بدل التفكير في أبعاد وغايات القانون الأساسيّة.

وبما أنّ اللعب بتعديلات السريّة المصرفيّة بات لعباً بمسار تنفيذ شروط التفاهم على مستوى الموظفين مع صندوق النقد، الذي تمثّل هذه التعديلات أبرز مندرجاته، وبما أنّ استباق الموازنة واللعب بسقوف الإنفاق يرتبط بمندجات هذا التفاهم أيضًا، الذي اشترط إقرار موازنة تمهّد لاستعادة انتظام ماليّة الدولة، يمكن القول أن المجلس النيابي بات يلعب بالنار. وبصورة أوضح: بات المجلس النيابي يخاطر بمسار برنامج صندوق النقد نفسه، لمجرّد الحرص على مصالح النخبة الماليّة المتضرّرة من شروط ومندرجات هذا البرنامج.

اعتمادات إضافيّة في احتياطي الموازنة

كما هو معلوم، لم يقرّ المجلس النيابي بعد موازنة العام الحالي، التي يُفترض أن تحدد سقوف الإنفاق من جهة، والإيرادات التي تراهن عليها الدولة لتمويل هذه النفقات من جهة أخرى. ولهذا السبب، مازالت الدولة تعتمد على قاعدة الإثني عشريّة لتحديد سقوف الإنفاق، أي على أساس معدّلات الإنفاق الشهريّة كما في آخر موازنة تم إقرارها. وبدل إقرار الموازنة اليوم، بما يحدد وجهة النفقات التي تطلب الحكومة تمويلها، وبما يحقق الحد الأدنى من التوازن في الماليّة العامّة، قرر المجلس النيابي اليوم تمرير موافقة استثنائيّة على اعتمادات إضافيّة بقيمة 10,000 مليار ليرة لبنانيّة.

الإشكاليّة الأولى في الخطوة التي قام بها المجلس النيابي اليوم، تكمن في زيادة أبواب معيّنة من الإنفاق، بغياب الموازنة التي يُفترض أن تحدد كيفيّة تمويل هذه الزيادات. بمعنى آخر، وبدل التمهيد لاستعادة الانتظام المالي في الميزانيّة العامّة، من خلال مشروع قانون الموازنة الموجود اليوم بحوزة لجنة المال والموازنة، فتح المجلس النيابي الباب أمام المزيد من العبثيّة في إدارة الميزانيّة العموميّة، بعيدًا عن أي رؤية شاملة لكيفيّة إدارة الموارد المتاحة أمام الدولة. مع الإشارة إلى زيادة النفقات، من دون التخطيط لتصحيح شامل في الميزانيّة العامّة، وزيادة الواردات بالتوازي مع التدهور الحاصل في سعر الصرف، سيعني المزيد من الاعتماد على مصرف لبنان للاقتراض، ما يعني المزيد من خلق النقد لتمويل هذه النفقات، وهو ما سيحمّل الكلفة لسعر صرف الليرة في النهاية. ولأهميّة التصحيح الشامل في الموازنة بالتحديد، كان صندوق النقد قد اشترط إقرار موازنة العام الحالي في إطار التفاهم على مستوى الموظفين، بما يعالج مسألة سعر الصرف المعتمد في تقدير النفقات واستيفاء الرسوم، وبما يحقق الحد الأدنى من التوازن في الميزانيّة العامّة.

الإشكاليّة الأهم في قرار المجلس النيابي اليوم، تكمن في أن 7400 مليار ليرة من الاعتمادات الإضافيّة محددة لتغذية “النفقات الطارئة والاستثنائيّة في احتياطي الموازنة”، أي أنّها سقوف مفتوحة للإنفاق من دون أي وجهة محددة. بمعنى آخر، وفي ظل إحدى أخطر الانهيارات الماليّة التي شهدها التاريخ، قرر المجلس النيابي إعطاء “شيك على بياض” للسلطة التنفيذيّة، لتنفق هذا المبلغ من دون أي قيد أو شرط، لناحية المستفيدين منه. وبما أن الحكومة اليوم باتت في مرحلة تصريف الأعمال، ولا تصدر مراسيم في اجتماعات رسميّة لمجلس الوزراء بسبب عدم انعقاد المجلس، بات بالإمكان تحديد وجهة إنفاق هذا المبلغ من خلال قرارات استثنائيّة موقعة من رئيس الجمهوريّة ورئيس الحكومة ووزير الماليّة، ما يعني أن المجلس النيابي أعطى هذا “الشيك على البياض” لثلاثة أشخاص فقط.

باختصار، كل ما جرى لم يكن سوى تلاعب بوجهة النفقات العامّة، بما يخالف منطق إقرار الموازنة بشكل مدروس ومتوازن، وبما يتعارض مع مبدأ ضبط النفقات في هذه المرحلة الحسّاسة، ومن دون أي تحديد أو رؤية لكيفيّة تمويل هذا الإنفاق الإضافي. مع الإشارة إلى أنّ 2,600 مليار ليرة فقط من أصل ال10,000 مليار ليرة ستذهب إلى المساعدات الاجتماعيّة المخصصة لموظفي القطاع العام، فيما سيتذهب سائر القيمة لبند “النفقات الطارئة” التي لم يتم تحديد وجهتها ولا هويّة المستفيدين منها.

التلاعب بتعديلات السريّة المصرفيّة

نشطت جمعيّة المصارف على خط التواصل مع الكتل النيابيّة، لتسويق مسودّة معدّلة لمشروع القانون المتعلّق بتعديلات السريّة المصرفيّة. أمّا الهدف الأساسي، فهو تأمين الحد الأدنى من التوافق بين القوى السياسيّة الأساسيّة الموجودة داخل المجلس، على المسودّة التي تطرحها الجمعيّة، والتي عدّلت بعض بنود مشروع القانون كما أقرّته لجنة المال والموازنة. وجميع هذه التعديلات، تصب في خانة إفراغ القانون من أهدافه الأساسيّة، وزرع الألغام بين بنوده. وكما كان متوقّعًا، صوّت المجلس النيابي اليوم لمصلحة هذه التعديلات كما هي، وجاءت الصيغة التي تم التوافق عليها هجينة وركيكة، وبعيدة عن أهداف القانون الأساسيّة.

التعديل الأوّل كان إزالة عبارة “الجرائم الماليّة الأخرى”، والتي كانت تشمل جميع أنواع الجرائم الماليّة، من ضمن الجرائم التي يُعطى القضاء حق تخطّي حاجز السريّة المصرفيّة عند النظر بها. وبذلك، باتت جميع المخالفات المصرفيّة، التي يُشتبه بقيام المصارف بها، خارج نطاق الجرائم التي يمكن للقضاء الوصول إلى المعلومات المصرفيّة المتعلّقة بها. كما أزالت هذه التعديلات لجنة الرقابة على المصارف، من لائحة الجهات التي تملك حق رفع السريّة المصرفيّة، في سياق قيامها بمهامها المنصوص عنها في القانون. أمّا أهم ما في الموضوع، فهو ربط صلاحيّة النيابات العامّة التمييزيّة برفع السريّة المصرفيّة، بصلاحيّات النائب العام المالي علي إبراهيم، وما سيعني عمليًّا شلّ قدرة القضاء على رفع السريّة المصرفيّة من دون قيد أو شرط، وربط هذه القدرة بتجاوب النائب العام المالي.

ببساطة، تم التلاعب بمشروع القانون، وضربه في المقتل، ما سيعني عدم تقديمه القيمة المضافة المرجوّة منه في سياق التفاهم مع صندوق النقد. ولهذا السبب بالتحديد، أشارت مصادر مواكبة للمحادثات التي جرت بين الوفد اللبناني وبعثات الصندوق إلى أن القانون كما تم إقراره بات يخلو من المعايير التي طلبها الصندوق خلال جلساته مع الوفد اللبناني، وهو ما يعني أن المجلس النيابي يغامر بالتفاهم المبدئي المعقود مع الصندوق.

سياسة الترقيع

حتّى في ما يتعلّق بقرض 150 مليون دولار، الذي وافق عليه المجلس اليوم، والمخصص من البنك الدولي لتمويل استيراد القمح، لم يخلُ الأمر من الترقيع على مستوى الأزمة الاقتصاديّة. فالمجلس وافق على قيمة القرض، الذي سيتم إنفاقه في مرحلة انتقاليّة، على طريق رفع الدعم التام عن مادّة الطحين، من دون أن يسأل الحكومة عن تصوّراتها لكيفيّة رفع الدعم، وكيفيّة تأمين العملة الصعبة لاحقًا لتمويل استيراد هذه المادّة بعد نفاد قيمة القرض، خصوصًا أن المسألة تتصل بسلعة حسّاسة، وبالأمن الغذائي في البلاد.

في خلاصة الأمر، من الواضح أن المجلس النيابي لم يفهم بعد حساسيّة المرحلة، ولا حساسيّة المهام التشريعيّة المتصلة بالأزمة الاقتصاديّة. ولعل جلسة التشريع التي جرت اليوم، مجرّد مؤشّر إلى نوعيّة القرارات التي سيتخذها هذا المجلس على أعتاب دخول لبنان مرحلة تطبيق خطّة التعافي المالي، هذا إذا لم تطح تشريعات المجلس بهذه الخطّة وبالتفاهم المعقود مع صندوق النقد، كما جرى سابقًا مع خطّة لازارد.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةمرحلة متقدّمة للأزمة: لا خبز.. وإجراءات بحقّ السوريين!
المقالة القادمةالأجر الحقيقي