يعطي وصول معدل التضخم في الصين الشهر الماضي إلى مستوى صفر بشكل استثنائي بينما تراجعت أسعار الإنتاج أكثر من المتوقع، حسب ما أظهرته أرقام رسمية الاثنين، مؤشرا قويا على ضعف ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
ولم يكن أشد المتفائلين بشأن محاولات لجم انفلات التضخم في الصين، عقب فتح الاقتصاد بعد ثلاث سنوات من الإغلاق بسبب وباء كورونا، يتوقع أن تبلغ أسعار الاستهلاك هذا الحد المزعج.
ويتابع الخبراء والأوساط الاقتصادية باهتمام كبير تأثيرات نمو النشاط في الصين على الاقتصاد العالمي لكون البلد محركا رئيسيا للتصنيع والتجارة العالمية وسوق العمل وغيرها.
ويرى بعض الاقتصاديين أن هذه العلامة خطرة، فأغلب صناع القرار النقدي في بلدان العالم يعرفون كيف يتعاملون مع الغلاء خلال الأزمات ولكن ليس مع تراجع الأسعار إلى هذا الحد.
وتعتمد غالبية البنوك المركزية رقما معينا كمستهدف سنوي للتضخم، لكن هذا الرقم لم يكن في يوم من الأيام “صفرا”، على الرغم من أن عدم رفع الأسعار بعيد المنال بالنسبة إلى المستهلكين.
وفي العادة تستهدف الاقتصادات المتقدمة معدل تضخم عند اثنين في المئة أو أقل من ذلك بقليل، وهو المستوى الأمثل لإدامة نمو الناتج المحلي الإجمالي دون حدوث اختلالات مالية واقتصادية.
ويضع المسؤولون في الاعتبار دوما تخوّفهم من اقتراب التضخم إلى مستوى الصفر، لأنه يمكن أن يقود إلى انكماش الأسعار، وبالتالي انكماش الاقتصاد.
وهذا يمكن أن يسحب التضخم الفعلي إلى مستوى أقل، مما يؤدي إلى دورة تضخم وتوقعات تضخم منخفضة باستمرار، حيث يعني التضخم المتدني أن الاستهلاك متراجع، والاستهلاك المتراجع يقلل الإنتاج وبالتالي يخفّض معدل التوظيف.
ويقول الخبراء إنه إذا انخفضت توقعات التضخم، فإن أسعار الفائدة ستنخفض أيضا. وفي المقابل، سيكون هناك مجال أقل لخفض أسعار الفائدة لتعزيز التوظيف أثناء الانكماش الاقتصادي.
وتشير الأدلة من جميع أنحاء العالم إلى أنه بمجرد ظهور هذه المشكلة قد يكون من الصعب جدًا التغلب عليها في وقت وجيز لأن الأمر يحتاج إلى تعديل بوصلة السياسات الحكومية والنقدية أولا للخروج من هذا المأزق.
ويؤجج انخفاض أسعار السلع قبل حساب الضرائب والشحن والرسوم الأخرى بوتيرة أكبر في الصين، المخاوف من اقتراب الانكماش وهو ما يزيد التكهنات بشأن تحفيز اقتصادي محتمل لمواجهة هذه المشكلة.
وتراجع مؤشر أسعار المستهلك لشهر يونيو عن النسبة البالغة 0.2 في المئة في مايو الماضي، وفق أرقام المكتب الوطني للإحصاء، وكان أسوأ من المتوقع وسط تباطؤ الطلب المحلي.
وأرخى تراجع سنوي بنسبة 7.2 في المئة في أسعار لحم الخنزير، الأساسي في الصين، وانخفاض أسعار النفط وبالتالي كلفة النقل، بثقلهما على كلفة سلة الغذاء الأساسية.
وتراجعت أسعار الإنتاج، التي تحتسب كلفة السلع لدى خروجها من المصنع، بنسبة 5.4 في المئة على أساس سنوي في انخفاض أسرع من مايو الماضي عند 4.6 في المئة وأشد وتيرة منذ ديسمبر 2015.
وكان المحللون الذين استطلعت وكالة بلومبرغ آراءهم قد توقعوا تراجع الأسعار بنسبة خمسة في المئة.
وذكر مكتب الإحصاء الحكومي أن ضعف الطلب وتراجعا حاد لكلفة المواد الأولية ساهما أيضا في انخفاض أسعار السلع لدى الخروج من المصانع.
ونقلت بلومبرغ عن تشانغ تشي وي، كبير الاقتصاديين في شركة بنبوينت أسيت مانجمنت، قوله إن “خطر الانكماش حقيقي للغاية”.
ويزيد كلا المقياسين، أي أسعار المستهلكين وأسعار المنتجين، الدلائل على أن الانتعاش آخذ في الضعف، وسط مخاوف من أن يؤثر الانكماش على الثقة. وقد يعزز ذلك التكهنات بخصوص تحفيز محتمل لدعم الاقتصاد.
وقالت ميشيل لام، الخبيرة الاقتصادية لشؤون الصين الكبرى، التي تضم البر الرئيسي وهونغ كونغ وتايوان ومكاو، في سوسيتيه جنرال إن “بيانات اليوم تبرز الحاجة إلى المزيد من تيسير السياسات، وهو ما يفعله صناع السياسة بالفعل، ولكن بطريقة محسوبة”.
ويواجه المنتجون بالفعل صعوبات منذ شهور في ظل انخفاض أسعار السلع الأساسية وضعف الطلب في الداخل والخارج.
وإذا استمر المستهلكون والشركات في الامتناع عن الإنفاق أو الاستثمار على أمل انخفاض الأسعار، فقد يؤدي ذلك إلى دوامة من تراجع الأسعار.
وتباطأ النمو الاقتصادي بشكل كبير منذ أبريل الماضي عقب رفع بكين إجراءات الحد من كوفيد الصارمة في نهاية العام الماضي، فيما سجل اليوان أدنى مستوياته في سبعة أشهر مقابل الدولار وسط تراجع الصادرات.
وتتعرض السلطات لضغوط متزايدة لإدخال إجراءات تحفيز لكن باستثناء بعض التخفيضات الصغيرة في أسعار الفائدة ووعود بالتحرك لم تصدر عن بكين أي تدابير جوهرية.
وبدوره أثر التوتر التجاري المستمر سلبا على الاقتصاد، واختتمت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين الأحد الماضي زيارة إلى بكين من دون مؤشرات على اختراق.
وقالت يلين إن محادثاتها مع المسؤولين الصينيين كانت “بناءة” لكنها أقرت بوجود “خلافات مهمة”.
وحددت الصين هدفا للنمو بحوالي خمسة في المئة هذا العام، وهو أحد أدنى معدلاتها منذ عقود طويلة بسبب استمرار تداعيات الأزمة الصحية التي أعقبتها آثار الحرب في شرق أوروبا على الاقتصاد العالمي.
ورغم الدعوات المتزايدة التي تتلقاها بكين لاتخاذ إجراءات لدعم الاقتصاد، فإن معظم الإجراءات حتى الآن كانت محدودة النطاق.
وخفض البنك المركزي الصيني سعر الفائدة الرئيسي الشهر الماضي بمقدار صغير، ووسعت الحكومة الإعفاءات الضريبية لمشتري السيارات الكهربائية.
وتحدّث رئيس مجلس الدولة لي تشيانغ الأسبوع الماضي إلى بعض الاقتصاديين الصينيين عن المساعدات المحتملة، رغم أنه شدد على أن السياسات ستكون “مستهدفة وشاملة ومنسقة جيداً”، مما يعزز التوقعات بأن التحفيز لن يكون ضخماً.
ومن العوامل المقيدة عبء الديون المرتفعة الذي ترزح تحته الحكومات المحلية، المسؤولة تقليدياً عن دفع النمو من خلال المزيد من الإنفاق.