التهويل بأزمة في القطاع المصرفي هو أمر مشبوه واستمرار للحملة التي تستهدف الكيان اللبناني

تلتزم المصارف اللبنانية المعايير الدولية إن من ناحية السياسية الإحترازية أو من ناحية المعايير الحسابية (معايير «بازل 3» ومعايير «IFRS9»). وتفرض معايير «بازل 3» الدولية حدّاً أدنى لنسبة كفاءة رأسمال المصرف نسبة إلى أصوله الموزونة بالمخاطر (Capital-to-Risk-Weighted-Assets Ratio)، مما يسمح بتعزيز الاستقرار المالي والكفاءة في الأنظمة الاقتصادية في جميع أنحاء العالم. إضافةً إلى القيود على نسبة كفاءة رأس المال للمصارف (Capital Adequacy Ratio)، تفرض معايير «بازل 3» حدّاً أدنى من الأصول السائلة عالية الجودة في المصارف لتغطية صافي التدفقات النقدية الإجمالية على مدار 30 يومًا. وإضافة إلى الأصول السائلة، هناك قيود على نسبة التمويل المُستقرّ الصافي والتي هي مقياس نسبة التمويل المُستقر المُتاح إلى التمويل المُستقرّ المطلوب. كما يفرض «بازل 3» على المصارف اللبنانية أوزاناً للأصول طويلة الأجل.

 مصرف لبنان والمعايير الرقابية 

مصرف لبنان، بحكم سلطته الرقابية على المصارف فرض في تعميمه رقم 436/2016 نسباً في ما يخص نسبة كفاءة رأس المال تفوق الـ 15% (Min TC (10.5%) + Capital Conservation Buffer 15 %). وبالتالي فإن المصارف اللبنانية تتمتّع كلّها بنسب كفاءة رأسمال تفوق الـ 15% (أعلى من النسبة المفروضة في معايير «بازل 3» أي 8%). والأهمّ أن العديد من المصارف العالمية حتى في الولايات المُتحدّة الأميركية لا تلتزم معايير بازل 3 في حين أنه في لبنان كل المصارف اللبنانية تلتزم هذه المعايير.

صندوق النقد الدولي في التقرير الأوّلي لبعثته الأخيرة إلى لبنان، طلب زيادة رؤوس الأموال الوقائية لدى المصارف اللبنانية وزيادة التغطية التأمينية للودائع. وهنا يُطرح سؤال جوهري: إذا كانت المصارف اللبنانية تلتزم معايير «بازل 3» العالمية مع نسبة كفاءة رأسمال تفوق الـ 15%، لماذا يطلب صندوق النقد الدولي زيادة رؤوس الأموال الوقائية ومستويات التغطية التأمينية للودائع؟ الجواب موجود في تقرير صندوق النقد الدولي نفسه.

تُشكّل اتفاقية «بازل 3» إطارا تنظيميا عالميا «طوعيا» يُحدّد نسبة كفاية رأسمال المصرف، واختبار الضغط، ومخاطر السيولة في السوق. وأتت هذه الإتفاقية كردّ من المصارف المركزية العالمية لمواجهة أوجه القصور في القوانين المالية والنقدية التي أظهرتها الأزمة المالية العالمية التي نشبت في العام 2007 وما وزالت تردّداتها تضرب العالم المصرفي حتى الساعة. ولتبسيط الأمر يجب معرفة أن الهدف الأساسي من هذه المعايير هو تعزيز متطلبات رأس المال المصرفي من خلال زيادة السيولة المصرفية وخفض الرافعة في المصارف وذلك عملا بمبدأ أساسي في العالم المصرفي: «رأس المال هو الوحيد القادر على إمتصاص الخسائر».

يقول صندوق النقد الدولي في تقريره أن الروابط بين المصارف اللبنانية والمالية العامّة للدولة زادت بنسبة كبيرة من خلال شراء المصارف لسندات الخزينة اللبنانية. فعلى سبيل المثال تمتلك المصارف اللبنانية 34.1% من إجمالي دين الدولة اللبنانية بالليرة اللبنانية أي ما يوازي 17.9 مليار دولار أميركي. أمّا في ما يخصّ الدين بالدولار الأميركي، فتمتلك المصارف اللبنانية ما يوازي 15.9 مليار دولار أميركي من أصل 31 مليار دولار أميركي، إجمالي سندات اليوروبوندز.

المعروف في معايير «بازل» أن الديون السيادية تُعتبر الأكثر ملاءة وبالتالي فإن نسبة التغطية التأمينية لهذه القروض هي الأقلّ بين كل المُقترضين. إلا أن الأوضاع التي تمرّ بها مالية الدولة وانكشاف المصارف اللبنانية لدين الدولة، يفرض (من جرّاء نفسه) تعديل في نسبة التغطية التأمينية للديون السيادية وبالتالي هناك حاجة لزيادة رأسمال المصارف.

 إجراءات استباقية 

المصارف اللبنانية لم تنتظر تقرير صندوق النقد الدولي للقيام بإجراءات في هذا الاتجاه خصوصا أن قطاعنا المصرفي يمتلك مهارات عالية في احتساب المخاطر التي لا تتبع معادلات خطّية (Non-Linear relationship ) فقد بدأت المصارف منذ أكثر من عام بتطبيق سياسة «رفع المدّيونية» عنها أي خفض تسليفاتها إلى الغير. بالطبع هذا الأمر انعكس على الواقع الاقتصادي خلال العام 2018 و2019 بحكم أن القطاع الخاص (مُحرّك النمو الإقتصادي) يعتمد بدرجة كبيرة على القروض المصرفية سواء كانت إستثمارية أو إستهلاكية. وتُظهر الأرقام أن حجم التسليفات انخفض من 108.729 مليار ليرة لبنانية (72.13 مليار دولار أميركي) في العام 2017 إلى 104.435 مليار ليرة لبنانية (69.27 مليار دولار أميركي) في العام 2018 أي بانخفاض بنسبة 3.9%. بالطبع هذا الانخفاض يُحرّر من رأس المال الاقتصادي (Economic Capital) الإلزامي ويزيد من ملاءة المصارف اللبنانية.

أيضا وخلال الهندسة المالية التي قام بها مصرف لبنان في العام 2016، قامت الدنيا ولم تقعد على خلفية جني المصارف اللبنانية أموالا نتيجة هذه الهندسة. في الواقع، تمّ حجز قسم كبير من نتائج هذه الهندسة لضخّها برأس مال المصارف عملا بالمعيار «IFRS9» والذي يُميّز بين الإيرادات والأرباح ويمنّع توزيع الإيرادات. وفي نهاية العام 2018، بلغ حجم الأموال الخاصّة للمصارف 24.25 مليار دولار أميركي وهو رقم عالٍ جدا في المعايير المصرفية نسبة إلى حجم القطاع المصرفي اللبناني.

ومنذ الأزمة المالية العالمية في العام 2007 قام حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، الموصوف بسياسته الاحترازية «الأورثوذكسية»، بالطلب من المصارف عدم توزيع 25% من أرباحها وضخّها في رأس مال المصرف. هذا الأمر جعل من المصارف اللبنانية رقماً صعباً في الصناعة المصرفية وأمّن لها قدّرة أوسع على تحمّل المخاطر سواء كان مصدرها القطاع الخاص أو القطاع العام.

صندوق النقد الدولي وتحسّسا منه من الوضع المالي العام ومن وضع المصارف، طالب السلطات اللبنانية بعدم الضغط على المصارف اللبنانية لشراء أدوات الدين ذات الفائدة المُنخفضة. كما طالب مصرف لبنان بالانسحاب التدريجي من العمليات التي يقوم بها مع الخزينة العامّة سواء كانت تسهيلات يُقدّمها للصندوق أو شراء لسندات الخزينة.

 إشاعات ذات أهداف مشبوهة 

ظهر في الإعلام المكتوب وعلى مواقع التواصل الإجتماعي بعض الأخبار التي تدور حول نيّة ستاندارد آند بورز خفض التصنيف الإئتماني للمصارف اللبنانية. وأضافت هذه الأخبار أن تخفيض التصينف سيزيد الكلفة على المصارف اللبنانية لزيادة رساميلها مما يؤدّي إلى «مُشكلة مصرفية حقيقية».

الخبر كما نُشر له أهداف مشبوهة ونُصنّفه كجزء من الحملة التي تستهدف القطاع المصرفي والليرة اللبنانية ومصرف لبنان. حتّى ولو كان فيه جزء من الحقيقة، فهو يُصوّر كما لو أن القطاع المصرفي أصبح على شفير الهاوية وهذا غير صحيح إذ يكفي معرفة أن حجم الأرباح الصافية للمصارف اللبنانية في العام 2018 بلغ 2.43 مليار دولار أميركي.

الجزء الصحيح في هذا الخبر هو أن خفض التصنيف الإئتماني للمصارف اللبنانية يزيد من كلفة التمويل عليها ويزيد من حجم رأس المال الاقتصادي للمستوى نفسه من النشاط. مما يعني رفعاً تلقائياً للفوائد في السوق ولكن ليس بالضرورة كلفة رفع رأس المال بحكم أن عائدات الإستثمار في الصناعة المصرفية اللبنانية تبقى عالية وبالتالي هناك ثلاثة احتمالات أمام هذه المصارف: (1) عدم توزيع أرباح على المساهمين وضخّ هذه الأرباح في رأسمال المصرف؛ (2) توظيف مُساهمين جدد (محلّيين أو أجانب)؛ أو(3) القيام بعمليات دمج بين المصارف أو شراء المصارف الكبيرة لمصارف أصغر حجمًا. كل هذه الإجراءات المُتاحة هي إجراءات لا تتأثر كثيرا بخفض تصنيف المصارف اللبنانية إذا ما حصل.

في النظرية الاقتصادية وفي أي دولة في العالم، ملاءة الدولة تعلو ملاءة كل الشركات والمؤسسات بما فيها المصارف. عمليًا في لبنان المصارف اللبنانية تتمتّع بملاءة أعلى من ملاءة الدولة بحكم وجود سيولة هائلة. لكن وكالات التصنيف الإئتماني لا يُمّكنها مخالفة هذا الواقع وتحتج بأن المصارف اللبنانية مُعرّضة لدين الدولة (51.3% من إجمالي سندات اليوروبوندز) لخفض التصنيف الإئتماني للمصارف اللبنانية.

وتعتمد وكالات التصنيف الإئتماني في تقييمها لأي دولة أو مؤسسة أو كيان بالمطلق على عدّة عوامل منها ما هو سياسي، ومنها ما هو اقتصادي ومنها ما هو مالي ونقدي. وقدّ قامت وكالة موديز للتصنيف الإئتماني في الثالث من شهر كانون الثاني 2019 بخفض تصنيف ثلاثة مصارف لبنانية من «B3» إلى «Caa1» بحجّة التعرّض لسندات خزينة الدولة اللبنانية.

بالطبع، نرفض مقولة أن وكالات التصنيف الإئتماني هي «مُسيّسة»، إلا أننا نرى في هذا التخّفيض أخذاً بنسبة كبيرة للعامل السياسي الذي لا يجب نكران أن التخبّط فيه يُعطّل عمل الحكومة مما يؤدّي إلى تراجع النمو الإقتصادي والمالية العامّة. أيضا قد تكون هناك منافسة بين وكالات التصنيف الائتماني في ما بينها مما يؤدّي إلى استعجال خفض التصنيف الائتماني للمصارف اللبنانية. وقد شهدنا من فترة وجيزة تسابق بين هذه الوكالات على إعطاء رأيها في عجز موازنة العام 2019 حتى قبل إقرار هذه الأخيرة وهذا عامل يلعب لمصلحة نظرية التـنافس بين وكالات التصنيف الإئتماني.

أيضاً نشرت بعض الوسائل الإعلامية أرقام تراجع الودائع في المصارف اللبنانية وعزت هذا الأمر إلى هروب رؤوس الأموال من لبنان. في الواقع استعجلت هذه الوسائل باستضافة «الخبراء الاقتصاديين» لإعطاء تفسير سبب هذا الإنخفاض مما يدّل على سطحية التحاليل. والحقيقة هي أن الانخفاض في الودائع (2.88 مليار دولار أميركي منذ بداية هذا العام) ذهب بالدرجة الأولى لسدّ القروض المفتوحة نظرا إلى أن الكلفة أصبحت عالية وبالتالي فضّل أصحاب هذه القروض إطفاءها من خلال الـ «Collateral» التي هي عبارة عن وديعة تُستخدم كضمانة في القروض.

على أية حال، مقولة أن «المصارف اللبنانية هي في أزمة وأن هناك مخاوف على الودائع» هي مقولة خارج السياق ولا تعكس الحقيقة أبدا حيث يبقى القطاع المصرفي اللبناني متيناً ومكاناً آمناً ومُربحاً للودائع. في المقابل لا أحد يستطيع نكران الوضع المُتردّي للمالية العامّة والذي يزيد من الضغط على القطاع المصرفي وعلى الاقتصاد اللبناني. ويتحمّل مسؤولية هذا الوضع التخبّط السياسي الذي نعيشه في لبنان والتعطيل المُستمرّ للحكومة في لحظة يحتاج لبنان إلى دفع مؤتمر سيدر والبدء بتطبيق مشاريعه.

بواسطةجاسم عجاقة
مصدرالديار
المادة السابقةالدولية للمعلومات تحدّد عدد اللبنانيين… كم بلغ؟ وكيف تَوزَّع بحسب الطوائف؟
المقالة القادمةابو سليمان عن ردة الفعل الفلسطينية تجاه خطة وزارته: لم أرها حين اعتبرت القدس عاصمة لإسرائيل