الحاكم في عزلته بين وسط بيروت والصفرا: لا هاتف يرنّ ولا باب يُطرق

ما كان رياض سلامة ليتخيّل ما حصل معه. فجأة، وخلال ساعات قليلة، توقّف الرنين في هواتفه الثابتة والمحمولة. اكتشف الرجل أن أحداً من السياسيين والرسميين والوزراء والنواب وأصحاب المصارف والمودعين ورجال الأعمال والإعلام، لم يعد يرغب بالحديث معه. بعدما تعب هؤلاء في البحث عن طريق للوصول إليه، صار اليوم منبوذاً، فقط لأن أميركا، وفقط أميركا، قرّرت إشهار فساده.

خلال ثلاثين سنة، كان لرياض سلامة سحره على آلاف اللبنانيين من مستويات مختلفة. بعد اغتيال رفيق الحريري، صار الرجل صاحب الكلمة الفصل في غالبية الملفات المالية الخاصة بالحكومة ودوائرها. وقد أنفق الكثير من أموال مصرف لبنان لترتيب الأمور وفق ما كان يعتقد أنه الصواب. وكل الخسائر التي تسبّبت بها سياساته النقدية وتدخّلاته في السياسات المالية والاقتصادية كان لها منتفعون، قد يكون هو على رأسهم، لكنها لائحة تشمل غالبية ساحقة ممن تعاقبوا على مراكز القرار في الدولة وفي القطاع الخاص. كلّ هؤلاء لم يجد أحد منهم نفسه مديناً للرجل بشيء، ولا حتى باتصال هاتفي.

سلامة يحجز نفسه في مكان مجهول – معلوم، سواء كان رسمياً في منطقة الصفرا في قضاء كسروان، أو في وسط بيروت حيث يقيم وقتاً طويلاً في المجمع السكني الخاص بالرئيس سعد الحريري. وهو على قلق دائم، وينتظر ما هو أشد وأقسى، كون الملفات القضائية المفتوحة ضده في لبنان والعالم سترتقي خطواتها إلى مستوى اعتقاله في وقت غير بعيد. وبعدما فُرضت العقوبات الأميركية عليه، بات من كانوا يحمونه، من رجال دولة وقضاء وأمن وقانون، يخشون التعرض لعقوبات إن هم عرقلوا أعمال التحقيق، وهو سيف تنوي الجهات القضائية الأوروبية استخدامه أيضاً في وجه من تعتقد أنهم لا يتعاونون في التحقيقات حول ملفات سلامة وشركائه.

لكن، هل كان سلامة يتوقّع العقوبات؟

الواضح أن الرجل فوجئ. بل هو عبّر عن الأسف لأن العقوبات طاولت ابنه ندي، ووجد فيها طريقة لمنع الابن من تمويله، بعدما تمّ الحجز على غالبية أملاك الأب وأمواله. وهو لا يعتبر ابنه متدخّلاً في أعماله، ولا يفهم سبب فرض العقوبات عليه. لكنّه يقرّ بأنّه ربما استخفّ بالإشارات التي وصلته قبل مدة عن نية الأميركيين معاقبته، وربما تكون لديه تفسيرات كثيرة للخطوة. لكنّ أكثر الإشارات التي دفعته للبحث في الأمر جاءت في متن قرار فرض العقوبات على حسن مقلد، عندما جرت الإشارة، صريحاً لا تلميحاً، إلى علاقة عمل تربطه بمقلد الذي تتهمه واشنطن بأنّه واجهة لأعمال مالية تخصّ حزب الله.

يومها، كان لافتاً بث قناة «العربية» السعودية أخباراً عن قرب فرض عقوبات على سلامة، وعندما استفسر من جهات أميركية عن الأمر جاءه الجواب بالنفي، قبل أن يصدر بيان رسمي أميركي يشيد به. وقد تبيّن لاحقاً أن السفارة الأميركية في بيروت ومسؤولين في الخارجية الأميركية أبلغوا البيت الأبيض بأنّ وضع سلامة على قائمة العقوبات وهو يشغل منصبه، ستكون له آثار سلبية كثيرة على الوضع في لبنان، وتبيّن أن لدى السفارة في بيروت كما لدى الخارجية معطيات عن قرار مكتوب وجاهز في وزارة الخزانة الأميركية.

المتّصلون بالجانب الأميركي ينفون أي معطيات عن وعود قُطعت لسلامة بعدم شموله بالعقوبات. إلا أن واشنطن لم يسبق أن أوحت لأحد بقرب صدور قرار العقوبات. وهي لطالما استخدمت العقوبات كورقة ابتزاز، وبواسطتها جعلت شخصيات عاملة في الحقل السياسي أو الأمني أو المالي أو الاقتصادي، تتعاون كلياً مع أجهزتها المالية والأمنية. لكنّ واشنطن، على عهدها، تصرّفت وفق المنطق السياسي والأخلاقي الذي تعرفه. فهي عندما تستنزف هذه الشخصيات، وتقرر أن لا فائدة إضافية منها، تعمد إلى وضعها على لائحة العقوبات. وهذا يعرفه معظم رجال الأعمال الذين وضعتهم واشنطن على لائحة العقوبات، بعدما بقوا لسنوات يعقدون اجتماعات سرية في عدد كبير من دول أوروبا وأميركا الجنوبية وأفريقيا، ويقدّمون تقارير إلى مندوبين عن سبعة أجهزة أميركية تُعنى بالاستخبارات الخارجية أو الداخلية أو ما يتصل بقوانين تبييض الأموال ومكافحة التهرّب الضريبي والإرهاب. وقد قدّم بعض رجال الأعمال معطيات هائلة للأميركيين ظناً منهم أن هذا التعاون يحميهم ويمنع عنهم العقوبات. لكن، وفي أكثر من حالة، لجأ الأميركيون إلى معاقبة هؤلاء وقطع كل اتصال بهم. بل ملاحقة من قرّر مواجهة القرار بمواصلة العمل والمناورة والاحتيال على القوانين. مع الإشارة إلى أن دبلوماسيين أميركيين، أبرزهم ديفيد شينكر، عملوا بالتعاون مع لبنانيين ليسوا إلا «وشاة»، على ابتزاز رجال أعمال تعرّضوا للعقوبات، وأخذوا منهم أموالاً كثيرة بحجّة العمل على رفع العقوبات، إضافة إلى مكاتب محاماة أميركية تحصد عشرات ملايين الدولارات من هؤلاء ومن غيرهم من المشمولين بالعقوبات، ولم تنجح في رفع العقوبات إلا في حالات محدّدة.

عملياً، دخل سلامة القفص الأميركي الأسود. لكنّه يجد نفسه مضطراً لمواجهة أمور عدة دفعة واحدة. وهاجسه اليوم هو مقاضاته من قبل جهات كثيرة في لبنان والخارج، وقد تضاعف جهده لنفي الاتهامات الموجّهة إليه بعد فرض العقوبات عليه، وبدأ نبش دفاتره وأوراقه لتحصيل ما يفيده في المواجهة. وآخر الأخبار يشير إلى أنه بدأ يضع ملاحظاته على تقرير التدقيق الجنائي الذي أعدّته شركة «ألفاريز ومارسال»، وأنه يسعى إلى تقديم ردّ على الاتهامات التي وجّهها إليه التقرير الأولي.

وربما يتعرّف الجمهور، قريباً، إلى نسخة أخرى لرياض سلامة، إذا ما انضمّ إلى لائحة الخبراء أو الصحافيين الذين لهم رأيهم في ما يصدر من تقارير أو يُعدّ من مشاريع قوانين تخصّ عالم المال في لبنان.

مصدرجريدة الأخبار - ابراهيم الأمين
المادة السابقةما هي الشروط للاستحصال على قرض الإسكان؟
المقالة القادمةموضة «الشاليهات»: نهضة سياحية أم «فورة وبتقطع»؟