أصل فكرة «الدولار الجمركي» يكمن في أنه أداة ضريبية يمكن استعمالها ضمن هدف إعادة توزيع الثروة، بدلاً من النقاش القائم حالياً الذي لا يرى في هذه الأداة سوى «تحريك» محاسبي لأدوات مدرّة للإيرادات لتمويل الإنفاق الإضافي للخزينة. استعمالها بهذا الشكل، يعني تحويلها إلى ضريبة قاسية على كل المقيمين في لبنان، فضلاً عن أنه يسهم في زيادة تشوّهات المجتمع والاقتصاد
لا يمكن التعامل مع ملف «الدولار الجمركي» بشكل منفرد عن سياسات الماليّة العامّة التي لم تكن موجودة في لبنان خلال العقود الأخيرة. فلهذا الملفّ انعكاسات اقتصادية واجتماعية لا تقتصر فقط على إيرادات الماليّة العامّة، إذ إن رفع قيمة «الدولار الجمركي» هو بمثابة ضريبة جديدة، أو بشكل أدق، هو استعادة لضريبة قديمة فقدت قيمتها مع انهيار سعر الصرف. وبالتالي لا يمكن التعامل معه بمعزل عن نتائج الأدوات الضريبية وأثرها في الاقتصاد وفي الحسابات المالية الخارجية للبلد. وهذا الأمر يعني، أنه لا يمكن استعمال أداة كهذه، إلا ضمن رؤية ماليّة موسّعة تهدف إلى تحقيق النمو الاقتصادي ومعالجة أسباب الأزمة الحاليّة، وإن كانت المعالجات تتطلب أدوات أخرى في سياق أصل نشوء الأزمة المصرفية – النقدية – الاقتصادية.
إعادة توزيع الثروة
إذاً، لماذا الضريبة ضرورية لإعادة توزيع الثروة؟ يتم الأمر من خلال السياسات المالية التي تُعدّ إحدى صلاحيات الدولة للتدخّل في المسار الاقتصادي، وإن بشكل غير مباشر. أحد المنظّرين لهذا الأمر هو الاقتصادي البريطاني جون مينارد كينز، الذي ساهمت أفكاره في ثلاثينيات القرن الماضي في خروج العالم الغربي، ولا سيما أميركا في عهد الرئيس فرانكلين روزفلت، من «الكساد الكبير» عبر بناء دولة «الرعاية الاجتماعيّة».
وهو يرى أن الضريبة تلعب دوراً مهمّاً كأداة بيد الحكومات ضمن هدف إعادة توزيع الثروة. ويمكن تفسير كلام كينز بشكل واضح من خلال اللجوء إلى الضرائب التصاعدية التي تستهدف أصحاب الثروات الكبيرة، إذ إنها تحقق إيرادات كبيرة تعيد الدولة توزيعها على باقي فئات المجتمع بأشكال مختلفة منها الاستثمارات في البنى التحتية والإنفاق الاجتماعي على الصحة والتعليم والنقل المشترك والإعانات المادية المباشرة. كل هذه الأمور تدخل ضمن إطار إعادة توزيع الثروة، لكن الأساس هو قيام الدولة باستخدام الضريبة لتوفير الموارد اللازمة لهذه الخدمات.
وفي كتابه «النظرية العامة للتوظيف والفائدة والمال»، يتحدث كينز عن التوزيع غير العادل للثروة والدخل، ويقرّ بأن أضرار ظاهرة اللامساواة كبيرة، إلا أنه «يبرّر» وجودها ويربطه بأسباب سيكولوجية واجتماعية مثل الحاجة إلى وجود دافع «كسب المال» لتأمين الأنشطة البشرية الأساسيّة للمجتمع، ما يخلق فرصة لتوزيع الثروة ولو بشكل غير عادل. أما سيكولوجياً، فبحسب كينز، هناك دافع لإزاحة الإنسان عن ميوله الخطيرة التي تتمثّل بـ«القسوة والسعي المتهور للحصول على السلطة، وأشكال أخرى من التعظيم الذاتي»، وذلك من خلال السيطرة على هذه الميول عبر السماح للأفراد بكسب المال وتجميع الثروات الخاصّة، واللجوء الى هذا الدافع يخلق فرصاً للتوزيع المتفاوت للثروة. إشباع الحاجات السيوكولوجية والاجتماعية، برأي كينز، يُعدّ ضرورة تنتج تفاوتاً في توزّع الثروة والدخل، إلا أنها «مبرّر» إلى درجة ما. ويرى كينز، أن العيوب البارزة في المجتمع الاقتصادي تتمثّل في إخفاقه في توفير العمالة الكاملة، وفي توزيعه التعسّفي وغير المنصف للثروة والدخل.
إذاً، دور الدولة هو السيطرة على التفاوت غير العادل وإعادة توزيع الثروة من خلال الضريبة.
أداة في السياق الرأسمالي
في هذا السياق الرأسمالي، الذي يُعتبر لبنان جزءاً منه، يمكن التعامل مع «الدولار الجمركي» بشكل مختلف عمّا هو مطروح حالياً. فباعتباره ضريبة، يمكن رؤيته على أنه فرصة لإعادة توزيع أكثر عدلاً للثروة. فالرسم الجمركي، هو أداة الدولة للتحكّم، ولو بشكل غير مباشر، في كل ما يدخل إلى البلد من سلع، ومن خلاله يمكن فرض ضريبة على سلع مختارة ومحدّدة، لعدّة أهداف. وقد ترمي هذه الأهداف إلى حماية السلع المنتجة محلياً، أو التحكّم في حركة الاستهلاك المحليّة، أو إعادة توزيع الثروة.
ويمكن استخدام الدولار الجمركي للتحكّم بحركة الحسابات الخارجيّة للبنان، مثل ميزان المدفوعات الذي يتضمّن الحساب الجاري. فمع رفع الدولار الجمركي، على سلع مختارة، تستطيع الدولة التحكّم باستيراد السّلع، ولا سيّما غير الضروريّة منها، أو التي يُصنع منها محلياً (وهذا يتطلب أيضاً فرض ضريبة على التصدير أو حظر التصدير تماشياً مع الحاجات الاستهلاكية المحلية)، أو الكماليات التي يستهلكها الأثرياء بهدف تقليص عجز ميزان المدفوعات النابع بشكل أساسي من العجز في الميزان التجاري. وبالتالي تخفيف الضغط عن سعر الدولار في السوق، ما يساهم في تحسين القدرة الشرائيّة للاقتصاد بأكمله. وهذا أمر يندرج أيضاً تحت عنوان إعادة توزيع الثروة.
لكن ما يحصل حالياً هو أمر مختلف تماماً. فحتى شهر تموز الماضي، استورد لبنان نحو 49 ألفاً و700 سيارة خاصّة، بمعدّل سعر وسطي: 15600 دولار للسيارة الواحدة. مع افتراض أن معدّل الرسم الجمركي على كل سيارة هو 50% (طريقة الاحتساب الحقيقيّة هي أكثر تعقيداً) على سعر صرف 1507.5 ليرات للدولار، فإن المستورد يدفع 11 مليوناً و700 ألف ليرة رسماً جمركياً على كل سيارة. للمقارنة، في الواقع الراهن يبلغ سعر السيارة على أساس دولار السوق (34 ألف ليرة) 530 مليون ليرة، أي أن المستورد يدفع فقط 2.2% كرسم جمركي.
السلوك الاقتصادي
أظهرت طريقة طرح الدولار الجمركي على العلن، أن تعاطي الحكومة معه هو تعاطٍ محاسبي بحت. من دون أن يكون هناك أي حسبان للتداعيات التي تنتج، ليس عن تطبيق رفع الدولار الجمركي، بل عن طرحه في هذه الطريقة. الشاهد على هذا الأمر سلوك التجّار والمستهلكين في السوق بالتوازي مع انتشار الخبر. فما إن طُرح موضوع الدولار الجمركي في مطلع السنة الحاليّة، حتى بدأ التجّار برفع أسعار السلع المستوردة إلى الأسواق المحلية، بحجّة احتمال رفع سعر صرف الدولار الجمركي، وقد حدث هذا الأمر على أكثر من دفعة، فتكرر مع كل مرة طُرح فيها الموضوع. وفي المقابل، حصل تغيّر في سلوك الاستهلاك، بسبب أخبار احتمال رفع الدولار الجمركي. فمثلاً استورد لبنان في الأشهر السبعة الأولى من السنة الحاليّة 49 ألفاً و700 سيارة، وهو رقم أعلى مما استورده البلد في كل سنة 2021، حيث بلغ 48 ألف سيارة. كل هذه الأمور تظهر تعامل الدولة مع الدولار الجمركي على أساس أنه خطوة محاسبيّة، بدلاً من التعاطي معه كسياسة، على أساس انعكاساته العميقة على الاقتصاد.