يعاني لبنان من نقص مهول في البيانات والإحصاءات. المثال الأكثر تعبيراً هو غياب تعداد رسمي للمقيمين منذ 90 عاماً. وهذا النقص يصيب أيضاً غالبية القطاعات، ومنها قطاع النقل الذي يُعد من أكثر القطاعات المهملة في هذا الشأن. وهذه ليست سمة خاصة بلبنان، بل هي منتشرة في الدول النامية من عالم الجنوب، ويمكن حصر خلفياتها بالآتي: عدم كفاية المصادر، صعوبة نشر المعلومات من مصدرها أو الوصول إليها من مريديها، وإهمال القطاع أو سوء حوكمته.
بيانات عشوائية
لا وجود لأي جهة رسمية تُعنى بإصدار أرقام قطاع النقل دورياً. أما الأرقام الصادرة من حين إلى آخر تبقى محدودة جداً، ومن هذه المصادر نذكر:
– إحصاءات غرفة التحكم المروري التي تحصي الصدامات المرورية وضحاياها بشكل شبه يومي، أو حالة السير على الطرقات الرئيسية والأوتوسترادات.
– عدد المركبات والتفاصيل المرافقة لها من وزارة الداخلية – مصلحة تسجيل المركبات. لكن الأرقام لا تصدر بشكل رسمي أو دوري.
– كلفة النقل من الإحصاء المركزي باعتبارها جزءاً من ميزانية الأسر، أو ضمن مؤشّر الأسعار، أو مؤشّر التضخم. هذه الأرقام عامة جداً ما يحدّ من جدواها، إلا أنه كان لافتاً تضمين مسح القوى العاملة (2019) أسئلة حول معدلات امتلاك الأسر لمركبات النقل أو مدى مخدوميّة النقل المشترك لمساكنهم.
– أرقام صادرة عن مكاتب دراسات أو مؤسّسات دولية كجزء من مشاريع للنقل الموكلة إليها من قبل الدولة (بلديات، وزارات، مؤسسات، مجالس،…) والتي بغالبيتها العظمى هي مشاريع تعنى بالطرقات حصراً. أكثر من أصدر أرقاماً من هذا القبيل وبشكل دوري (لفترة وجيزة) هو مجلس الإنماء والإعمار ولا سيما في تقاريره القطاعية أو السنوية أو المرفقة مع المشاريع والتي كان أبرزها مشروع النقل الحضري لبيروت الكبرى. إلّا أنّ ما يحدّ من فائدة هذه الأرقام هي كونها غالباً تكون محدودة جغرافياً أو تقنياً.
ورغم محدودية إنتاج الدولة في هذا المجال، إلا أنه يُسجّل أيضاً إهمال تاريخي في إنجاز مسح شامل لتنقلات المقيمين المحلية أو الوطنية. فعلى سبيل المثال، تجري فرنسا عدّة مسوحات لمعرفة عادات تنقل السكان، كالمسح الوطني لتنقلات المقيمين (تجري كل 10 أعوام)، المسوحات المحليّة للمدن الكبرى (كل 5 أعوام مع مجموع 160 مسحاً في 80 مدينة منذ عام 1976) بالإضافة إلى التعداد الرسمي للسكان ومسوحات ميزانيات الأسر والتي تتضمن أسئلة حول تنقلات السكان وميزانية النقل.
في المقابل، يرجع النقص في البيانات الرسمية في لبنان، إلى قرار رسمي بإهمال قطاع النقل توازياً مع إهمال الأرقام والبيانات في الحوكمة القطاعية (لكل القطاعات لا النقل فقط)، ما أدّى إلى تغييب الموارد المالية والبشرية اللازمة لإجراء مسوحات كهذه على نطاق واسع، فضلاً عن عدم إيجاد إدارات إحصائية مرتبطة بالدوائر الرسمية المعنية بقطاع النقل، وبشكل خاص وزارة الأشغال العامة والنقل ومجلس الإنماء والإعمار.
وعلى الصعيد البلدي، فالحال ليس أفضل، إذ يغيب هذا الدور بشكل فاضح ليكمل هروب البلديات من مسؤولياتها في قطاع النقل رغم الصلاحيات الواسعة الممنوحة لها بحكم القانون البلدي. هكذا تغيب تماماً، الأرقام والإحصاءات البلدية لتنقلات السكان، باستثناء دراسات محدودة غالباً ما تكون مموّلة من الخارج كجزء من مشاريع (على سبيل المثال دراسة في أواخر التسعينيات في طرابلس أو دراسة النقل الليّن في بيروت 2012-2013).
إحصاءات «المصلحة الخاصة»
خارج الإطار الرسمي، إذا حيّدنا الدراسات والداتا الصادرة عن مكاتب الدراسات والمؤسسات الدولية لمصلحة الدولة اللبنانية، فإننا سنلاحظ أن أكثرية الأرقام صادرة من دراسات أكاديمية تكون غالباً فردية ويتيمة، غير مترابطة، قديمة، محدودة جغرافياً (محصورة ببيروت وضواحيها تحديداً بشكل نافر) وهي أساساً نادرة جداً ولا تتخطى بضعة عشرات المنشورات منذ تأسيس الجمهورية، وهي تكون كذلك لأنها تصبّ في خدمة مصلحة خاصة.
أيضاً، ينبع أحياناً نقص في المعلومات والأرقام، من آليات إنتاج الداتا أو إصدارها أو الوصول إليها. فعلى سبيل المثال، عند إنتاج المعلومة يمكن أن يكون تفاعل المشاركين في الاستبيان أو المسح ضعيفاً، أو مغلوطاً، ما يهدّد جودة المعلومات. وفي لبنان، يبدو هذا الأثر مضاعفاً بسبب قلّة «ثقافة» الأرقام والاستبيانات واستطلاعات الرأي (ولا سيما خارج الاستبيانات الانتخابية والسياسية)، ومع قلّة الإحصاءات الرسمية أو الدورية الشاملة يمكن أن يصبح الحصول على المعلومات من قبل المقيمين أصعب.
تكمن الصعوبة أحياناً في النشر، وليس في إنتاج المعلومات نفسها. في هذه الحالة، يمكن الحصول على المعلومات ومعالجتها وتحليلها، ولكن لا يمكن نشرها بالشكل الأفضل. قد تنشأ العوائق أمام النشر الموثوق للمعلومات من عدم كفاية أو وضوح المنهجية المعتمدة أو عدم أهلية المنظمة التي أجرت المسح والتي قد لا تنشر البيانات وتحللها بطريقة موضوعية لأسباب خاصة أو سياسية مثلاً. يحصل ذلك حين لا تتناسب المعلومات المستقاة مع توجّهات، أو أهداف الجهة التي عملت على إصدارها، أو عندما تُمارَس عليها ضغوط وتأثيرات (غالباً سياسية). تنسحب هذه الصعوبة أحياناً، على المعنيين بالنقل في القطاع العام أنفسهم. فعلى سبيل المثال، فإن العديد ممن قابلتهم للحديث معهم عن القطاع (كجزء من دراسات أكاديمية) لم يوافقوا على الحديث إلا بشرط إخفاء هويتهم والمراكز التي يشغلوها، ولم يسمحوا بأي تسجيل أو تصوير للمقابلة. بل وأكثر، الحصول على الأرقام والدراسات المنجزة يواجه أحياناً «بالتطنيش» أو بالرفض رغم وجود قانون حقّ الوصول إلى المعلومات.
أيضاً، يمكن تفسير نقص البيانات بعدم كفاية الروابط بين البيانات المختلفة المنجزة، ما يؤدي إلى سوء المعالجة وفقدان قيمتها. وهذا موجود في قطاع النقل في لبنان، خاصة مع تعدّد الجهات المعنية بالقطاع وتضارب صلاحياتها وعملهم بشكل منفرد أحياناً من دون تنسيق كاف بينهم.
ما العمل؟
معاناة قطاع النقل من النقص في البيانات والأرقام، كسائر القطاعات، تزيد من صعوبة التعامل مع التخطيط. وفي ما يلي بعض الاقتراحات التي يمكن أن تحدّ من النقص، إنما لا يمكن اعتبارها بأي شكل من الأشكال حلولاً جذرية، بل يجب أن تأتي ضمن استراتيجية وطنية شاملة:
– إنشاء وحدة مركزية لإحصاء النقل تكون مرتبطة بالهيئة الناظمة للنقل (الواجب إنشاؤها بشكل عاجل) أو وزارة النقل أو الإحصاء المركزي بهدف إنشاء قاعدة بيانات للنقل عبر جرد كل ما تم إصداره من أرقام وبيانات تخصّ هذا القطاع منذ نهاية الحرب أقلّه والتنسيق مع باقي الهيئات والدوائر الرسمية والخاصة والأكاديمية في أي دراسات مقبلة في قطاع النقل. تعدّ هذه الخطوة نقطة انطلاق لمعرفة ما لدينا وما يلزمنا من بيانات، كما تخوّلنا الحصول على «بنك» للبيانات نحفظ فيه كل ما ينتج مستقبلاً.
– تأمين تمويل عاجل، وتوظيف مؤسّسات متخصّصة لإجراء مسح شامل على الصعيد الوطني أو المدن الكبرى أقلّه، لمعرفة عادات تنقل السكان وكيفية تغيّرها منذ انفجار الأزمة (عادات تنقلاتهم القصيرة والبعيدة، اليومية، المقيدة، الملزمة وغيرها مثل ميزانيتهم، وآرائهم بأي مشروع نقل وتصوراتهم المستقبلية…). بعكس المعتقد السائد، فإن مسحاً كهذا، لا يستوجب طاقات استثنائية ولا هو ضرب من الخيال ولا يكلّف أموال طائلة. فعلى سبيل المثال، آخر مسح شامل جرى في العاصمة السنغالية – داكار، شمل عيّنة تمثل كل سكان المدينة وضواحيها (أكثر من مليوني شخص) بكلفة نصف مليون يورو، وتم إصدار أولى نتائجه في غضون ستة أشهر. مسح كهذا قد لا يكلّف ضمن بيروت الكبرى سوى ما بدّدته السلطة خلال شهرين أو ثلاثة فقط على دعم المحروقات. لو أنه منذ أعوام 2019 أو 2020-2021 (بعد انحسار الكورونا) أو حتى منذ بداية العام الحالي، أجري المسح، لكان اليوم بحوزة السلطات في لبنان، بيانات مهمّة تدلّ على طرق التعامل مع أزمة النقل بدلاً من التخبط السائد وآخر مظاهره صعوبة تشغيل أسطول يقلّ عن 100 باص نقل عام للدولة (45 باصاً قديماً + 50 باصاً (هبة فرنسية))، لا سيما لجهة خطوط التشغيل والسائقين، والمستخدمين المحتملين… كان يمكن مثلاً، منذ بدء الحديث عن استقدام هذه الباصات في نهاية السنة الماضية، إطلاق استطلاع رأي صغير يفيد في تحديد محيط خطوط التشغيل المحتملة.
– تحفيز البلديات للتحرّك على الأرض لجمع بيانات تنقلات السكان، والأهم أيضاً، حول المركبات: كالمواقف، نقاط المرور الأساسية، كثافة السير في مختلف أنحاء الحيّز البلدي وتحليله جغرافياً وزمنياً (باليوم والأسبوع أقلّه)، آليات النقل العام ومواقفها وإن أمكن مستخدميها. رغم الأزمة وقلّة الموارد يمكن القيام بهذا الإجراء عبر التعاون مع جمعيات المجتمع الأهلي، وطلاب الجامعات، وضمن اتحادات البلديات أو عبر ترابط البلديات القريبة مع بعضها البعض. للتذكير، بعد اندلاع الأزمة أقام اتحاد بلديات الضاحية الجنوبية خطّة سير لم تلحظ استبياناً شاملاً لتنقلات السكان والتي كانت لتكون ذات فائدة عالية وبكلفة بسيطة مقارنةً بكلفة الخطة ككل والتي تبدو نتائجها محدودة نسبياً.
– الاعتماد على الشقّ التقني كالعدادات الرقمية والكاميرات. ففي لبنان لا يوجد سوى عدد قليل جداً من العدادات المرورية لدى بعض مكاتب الدراسات، وهي عدادات نقّالة تستخدم لدراسات مرفقة مع مشاريع الطرقات أو مشاريع الإنشاء الخاصة. أي أن استخدامها يبقى محدوداً جغرافياً وزمانياً ولا ينتج سوى بيانات محدودة. فالمطلوب وضع عدادات ثابتة على الطرقات الرئيسية والأوتوسترادات لإحصاء مرور المركبات وتشريح حركة المرور. هذا الإجراء كان يجب أن يكون أولوية، إلا أنه لم يؤخذ في الاعتبار في مشاريع النقل السابقة التي شملت مثلاً، تركيب عدادات لبدل الوقوف والكاميرات والرادارات (يقال أن جزءاً كبيراً منها صار خارج الخدمة). وكان قد تم منذ عقدين تقريباً، إصدار توصية بوجوب إقامة هذه العدادات الثابتة على الطرقات الرئيسية على كامل الأراضي اللبنانية لكنها قوبلت بالإهمال.
في لبنان، تخاف السلطة الطائفية من الأرقام، لأن الرقم يعكس الواقع، أي يقدّم معرفة حقيقية عن واقع الاقتصاد والمجتمع. تعداد السكان أصبح «محرّماً» خشية معرفة حجم الطوائف وتوزّعها مروراً بعدم معرفة حقيقة واقع القطاعات الحياتية وصولاً إلى عادات التنقل التي ستفرز معطيات اقتصادية ومجتمعية واضحة وتنطوي على دلالة مهمة. يعزى النقص إلى أسباب مترابطة تقنية ومادية، ولكن مصدره الفعلي هو سياسي يستلزم جهة تسعى للتصحيح وليس للترقيع.