ليس تفصيلاً بسيطاً أن يشكل بند الرواتب والأجور في القطاع العام 86 في المئة من إجمالي واردات الدولة اللبنانية. خطورة هذا الرقم لا تنحصر في حجمه الهائل فقط، إنما بكيفية تمويله أولاً، وبعجزه عن تلبية أبسط المتطلبات الحياتية لشريحة واسعة من اللبنانيين، ثانياً. فحوالى “12 ألف مليار ليرة، من أصل 14 ألفاً تمثل مجمل واردات الدولة “النظرية”، تذهب إلى 320 ألف موظف في القطاع العام”، بحسب الدولية للمعلومات. وفي ظل عجز نظري في الموازنة بقيمة 4837 مليار ليرة، أو 7 في المئة من الناتج المحلي، كما حددته موازنة العام 2020، وعجز فعلي قد يفوق هذا الرقم بحوالى 8 آلاف و500 مليار ليرة، فان تمويل كلفة الرواتب والأجور تتم بطباعة الليرات. الأمر الذي يدخل البلد في دوامة من التضخم وارتفاع الأسعار. حيث أن التضخم يؤدي إلى طباعة المزيد من الليرات، وطباعة الليرات تتحول بنسبة 90 في المئة إلى دولار، وتَدفع باتجاه موجة جديدة من ارتفاع الأسعار… وهكذا دواليك.
هذا الواقع الذي يجعل من مطالبة موظفي القطاع العام بزيادة على الرواتب والأجور أمراً مستحيلاً، “يمكن تشريحه بشكل منطقي وعلمي، وإعطاء كل ذي حق حقه، من دون أن تتسبب زيادة الأجور بالتضخم الذي يحكى عنه”، بحسب عضو الهيئة الإدارية لرابطة موظفي الإدارة العامة طارق برازي. “إذ أن المطالبة بزيادة الرواتب محصورة بـ 15 ألف موظف فقط، يعملون في الإدارة العامة، ويتعرضون للظلم الأكبر”. فعلى عكس المعلمين (40 ألف معلمة ومعلم) الذين لا يداومون، وخلافاً لما يحصل عليه عديد الأجهزة الأمنية والعسكرية البالغ نحو 130 ألفاً من تقديمات إجتماعية ولباس موحد ونقل مجاني وطعام يومي، فان موظفي الإدارة ملزمون بالحضور على حسابهم إلى مكان عملهم. وذلك بعدما أصبح بدل النقل الشهري لا يغطي كلفة صيانة السيارة، ولا يعوض عن نسبة ارتفاع البنزين التي فاقت 70 في المئة. كما أن معدل أجور 96 في المئة منهم انخفض إلى 250 دولاراً كحد أقصى، و60 دولاراً كحد أدنى. وإذا احتسبنا نسبة الأقساط التي تحسم من الرواتب، يتبين لنا أن متوسط الأجور في الإدارة العامة أصبح يترواح بين 30 و125 دولاراً. “هذا المبلغ يجب أن يكفي للمأكل والمشرب واللباس وإصلاح السيارة وتعليم الأولاد والطبابة وشراء الدواء. وهذا هو المستحيل بحد ذاته”، يقول برازي. و”في حال كانت الدولة عاجزة عن إعطاء زودة غلاء معيشة، عليها تقصير الدوامات واعتماد مبدأ المداورة في الحضور، وشمول الموظفين بالبطاقة التمويلية”.
في الوقت الذي يتعرض فيه جميع العاملين في الدولة للظلم، فان “الحل لا يكون بتجزئة المشكلة، إنما باعادة هيكلة شاملة للإدارة العامة مرتبطة باعادة الهيكلة المالية والمصرفية والإقتصادية”، بحسب المستشار المتخصص في مجالي الاستراتيجية والقيادة جيلبير ضومط. تحييد العاملين في الدولة الذين “لا حول ولا قوة لهم” عن تحمل المسؤولية، يقابله إمعان السياسيين في إضعاف المؤسسات العامة ورفع كلفتها. فبحسب تشريح التوظيف الذي قام به رئيس “لجنة المال والموازنة النيابية” ابراهيم كنعان يتبين أن هناك 32 ألف وظيفة غير قانونية في العام 2019. وإن كان لا بد من التطهير، فليبدأ المسؤولون بهذا الرقم، وليتحمل من أدخلهم مسؤولية التعويض عليهم. وهو ما يخفض عدد العالمين إلى أقل من 200 الف ويقلل الكلفة بمليارات الليرات.