شكّل قانون حقّ الوصول إلى المعلومات، الصادر عن مجلس النوّاب بتاريخ 10/2/2017، ومرسومه التطبيقي الصادر في تمّوز 2020، نقلة نوعية في سياق التطوّر الإداري ومكافحة الفساد. غير أنّ القانون «الفتي» على الواقع اللبناني، و»الغريب» على السلطة السياسيّة المعتادة على عقلية الدهاليز والهروب نحو الغموض و»تمييع» الملفّات، حدّ من الديناميكية المطلوبة لتعامل الوزارات والإدارات العامّة مع معايير الشفافية وخصوصاً الماليّة. إزاء هذا الواقع، أصدر قاضي العجلة الإداري كارل عيراني، قراراً بإلزام وزارة المالية تسليم النائب سامي الجميّل التقرير المبدئي المتعلّق بالتدقيق الجنائي لحسابات وأنشطة مصرف لبنان المعدّ من قبل شركة «ألفاريز آند مارسال» وذلك بصورة فورية ومن دون إبطاء.
الجدير بالذكر، أنّ المبادئ التي ارتكز عليها عيراني في نصّ القرار، تُعدّ فرصة جديدة ومهمّة في سياق التفسير الصحيح للقانون، وصونه من استنسابية السلطة الإدارية في رفضها طلبات حقّ الوصول إلى المعلومات، والتذرّع بضرورات السريّة وحماية الأمن القوميّ.
كما دحض القرار ما تحجّجت به وزارة المالية في جوابها أنّ تقرير التدقيق الجنائي لم ينجز، وأنّ وزير المال في حكومة تصريف الأعمال يوسف خليل، لديه نسخة عنه وبالتالي لا يحقّ له تسليمه. هذه الأحجية، نقضها قاضي العجلة الذي يُعتبر في الوقت ذاته حسب قانون حقّ الوصول إلى المعلومات، قاضياً أساسياً (إلى جانب العجلة) كونه الوحيد القادر على البتّ في مسألة رفض الطلبات. واستند نص القرار، في معرض ردّه على خليل، إلى أنّ الأخير لا يجوز له التذرّع بعدم إنجاز التقرير، من دون أن يقدّم الأدلة والبراهين كافّة التي تؤكّد ذلك. وإلا يصبح هذا المنطق حجر عثرة بيد الوزراء والإدارات لإخفاء المعلومات المطلوبة من قبل المواطنين والأشخاص المعنويين، ويصبح القانون حبراً على ورق.
بمعنى آخر فإنّ عدم تسليم المستدعي المعلومات التي تبيّن عدم انتهاء التدقيق الجنائي، يجعل من إدلاء الوزير غير ذي قيمة لأنّه يكون مبنياً على وقائع غير ثابتة وخالية من أي إثبات ولا يمكن الركون اليها لرفض تسليم المستدعي ما يطلبه.
وبما أن قرار خليل تضمن ثانياً، بأنّ دور وزارة المالية يقتصر على تمثيل الحكومة اللبنانية تجاه شركة «ألفاريز آند مارسال» وتسهيل التواصل مع مصرف لبنان لتنفيذ المهمة الموكلة اليها بموجب هذا العقد، وبما أنّ اقتصار دور الوزارة على تمثيل الحكومة اللبنانية تجاه الشركة المدقّقة، ما يجعل منها حكماً الإدارة المختصة وفقاً للفقرة «أ» من المادة 14 من قانون الحقّ في الوصول إلى المعلومات، أيّ أنها الجهة الأساسية في تنفيذ مهمة التدقيق.
من ناحية أخرى، يُثبت جواب وزير المال بأنه يعود للحكومة حقّ التصرف بالتقرير عند جهوزه، أنه مخالف بصورة صارخة لقانون المعلومات، الذي لم يشترط بأي من مواده، موافقة مجلس الوزراء أو غيره على طلب الحصول على المعلومة طالما أنّ المعلومة لا تدخل ضمن الحظر الحصري المنصوص عنه في المادة الخامسة من القانون. والنقطّة الأبرز (في حيثية قرار القاضي عيراني)، هي أن تقرير التدقيق الجنائي، لا تعود ملكيته إلى الحكومة، بل هو ملك الشعب اللبناني الذي له الحقّ بموازاة مع أي سلطة إدارية أو قضائية، في معرفة الأسباب الواقعية والقانونية وغير المعلنة التي أدت إلى انهيار النظام الإقتصادي والمالي برمته للدولة اللبنانية.
وفكّك نصّ قاضي العجلة الإدراي، قرار وزير المال لجهة الحصول على عدم ممانعة من الشركة المدقّقة (ألفاريز) للإفصاح عن العقد لجهة ثالثة، عملاً بالشروط التعاقدية معها، فإنّ هذا الأمر لا يعتد به بوجه طالب الحصول على المعلومة، سنداً للمادة الخامسة من قانون الحق في الوصول الى المعلومات، التي نصّت صراحة في فقرتها (أ-4) على أنّه لا تحول بنود السرية المدرجة في العقود التي تجريها الإدارة دون الحق في الوصول إليها…»، بمعنى أنّ أي عقد إداري يمنع حق الوصول إلى المعلومات، يكون في حكم الساقط، لأنّ القانون هو أعلى من العقد (حسب الهرمية القانونية).
في الخلاصة، شكّل قرار قاضي العجلة كارل عيراني، مرجعاً مهمّاً، يركن إليه في هكذا قضايا، غير أنّ الأنظار تتجه نحو وزارة المال التي من المفترض أن تتسلّم القرار اليوم، على أن يكون أمامها مهلة 8 أيام، لاستئناف الحكم أمام مجلس شورى الدولة، الذي يُعيّن بدوره، لجنة مؤلّفة من ثلاثة قضاة (من ضمنهم قاضي العجلة)، ويتخذ القرار بالتصويت الأكثري (2 من 3)، مع الإشارة إلى أنّ الدولة ممثلة بهيئة القضايا، والتي ستتولى الإستئناف اذا كان سيحصل، تركت أمر البتّ لقاضي العجلة نظراً لأهمية الموضوع، علماً أنّه يحقّ لقاضي العجلة (عيراني) أن يحكم بغرامة على الخصم الذي يمتنع عن تنفيذ قراره.
فهل ستخطو السلطة طريق الإستئناف وفتح أبواب التشكيك (عن حقّ) بنزاهتها ومصداقيتها في تنفيذ مهمّة التدقيق الجنائي؟ أم أن القضاء سيكون بالمرصاد ثانية ويجبرها على تسليم التقرير إلى طالبيه؟