الضريبة على رؤوس الأموال: لبنان الأكثر توحّشاً

من استفاد ويرغب في الخروج، عليه أن يدفع ضريبة توازي الفرق في قيمة أصوله بين ما كانت وما أصبحت عليه. هذا المبدأ سارٍ في الأنظمة الرأسمالية الكبرى، وفي مقدمّها أميركا، إلا أنه في لبنان مرفوض لأن أصحاب الرساميل لديهم ما يكفي من النفوذ للتشكيك بقواعد عمل الرأسمالية التي يتذرّعون بها لممانعة تطبيق هذا المبدأ ويرفضون فرض أيّ ضريبة على الثروة لمعالجة الإفلاس

لطالما مانع أركان النظام في لبنان، تصحيح النظام الضريبي بذريعة أن النظام الرأسمالي الذي يقوم على مبدأ حرية حركة رؤوس الأموال، لا يمكنه فرض قيود بأيّ شكل على هذه الحركة، وإلا فإنها ستمتنع عن التدفق. وتستند هذه السردية إلى موقف أيديولوجي مفاده أن الدول الرأسمالية لا تتدخّل في الأسواق. ورغم أن هذه السردية سقطت منذ الأزمة المالية العالمية في نهاية 2008 عندما تدخّلت أميركا لإنقاذ قطاعاتها المالية من انهيار نظامي هائل، وبالمناسبة هو أمر يتكرّر اليوم أيضاً، إلا أن أركان السلطة في لبنان تمسّكوا بهذه السردية في أوقات الرخاء تعزيزاً لمصالحهم المغروسة في بنية الاقتصاد. ورغم أن الإفلاس أصاب القطاع المالي في لبنان، إلا أن السلطة ترفض استخدام أي أداة تدخّلية لعلاج الأزمة، باستثناء تغطية خسائر هذا القطاع. فأركان السلطة، التي يشغل فيها القطاع المالي حيّزاً أساسياً، لا يتّعظون مما تقوم به أميركا، منبع الرأسمالية، التي فرضت على رؤوس الأموال ضريبة الخروج من النظام. فهم يرفضون، مثلاً، إقرار ضريبة على الثروة، رغم أن ممثلي البنك الدولي وصندوق الدولي اقترحوها.

ما هي الـ Exit Tax، أو ضريبة الخروج، وبأي هدف أقرّت؟ هذه الضريبة مفروضة على مواطني الولايات المتحدة الأميركية والمقيمين فيها من حملة الإقامة الذين يرغبون في التخلّي عن الجنسية الأميركية أو عن الإقامة في الولايات المتحدة الأميركية. هي عملياً ضريبة على أصول أي شخص يتخلّى عن وضعية إقامته في الولايات المتحدة أو عن جنسيته، فيتم تلقائياً فرض ضريبة على أصول الشخص المعني كما لو أنه باع أصوله يوم تخلّيه عن الجنسية أو الإقامة. فتُؤخذ منه ضريبة على الفرق بين ما كانت تمثّله قيمة أصوله وما أصبحت عليه.

ومعنى هذه الضريبة هو أنه لا يمكن للأشخاص، الذين استفادوا مادياً من إقامتهم في الولايات المتحدة وجمعوا الثروات فيها، الخروج بثرواتهم كما هي، بل عليهم دفع ضريبة خروج. بهذا المعنى، لا يمكن لرأس المال أن يتحرّك بشكل حرّ حتى من خلال أبسط التفاصيل في أميركا. بل إن الأمر يتعدّى ذلك، إلى احتساب ضريبة دخل حتى على الأموال التي يجنيها الأميركيون (حاملو الجنسية الأميركية) خارج أراضي الولايات المتحدة، فهي أموال مشمولة بنظام الضرائب الأميركية، وهذا، أصلاً، ما يُساهم في تحفيز بعض الناس على ترك الجنسية، وهو ما تواجهه الولايات المتحدة بـ«ضريبة الخروج».

الفكرة ليست في قدرة الولايات المتحدة على جني الضرائب من خلال سياسات ضريبية متطرّفة، بل في أن أكثر الاقتصادات رأسمالية في العالم، وأكثرها تطرفاً نحو النيوليبرالية وتقليص دور الدولة لمصلحة القطاع الخاص، تضع هذا النوع من القيود على حركة رأس المال، حتى لو أتى الأمر على شكل أدوات ضريبية. بمعنى أوضح، لا تتوانى السلطة في أميركا عن تحجيم حرية حركة رؤوس الأموال عندما يتعلق الأمر بمنع التهرّب الضريبي أو في سبيل تكوين مصادر دخل إضافية للدولة.

هنا تحضر فكرة انعدام قدرة الدولة في لبنان على المبادرة على إجراء تعديلات بديهية على النظام الضريبي، وذلك تحت مسميات عديدة، منها ضمان حرية الاقتصاد الرأسمالي وتشجيع الاستثمارات. فلبنان الذي يتغنّى بكونه اقتصاداً رأسمالياً، إلا أن نظامه الضريبي لا يحاكي حتى أكثر الدول الرأسمالية تطرفاً في اتباع هذا النظام. فالحكومة اللبنانية لم تستطع فرض ضريبة على الثروة لمرّة واحدة فقط من أجل علاج الخسائر في القطاع المالي، رغم أن فرض هذه الضربية مقترح من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي اللذين يُعدّان مؤسّسة ناطقة باسم الرأسمالية العالمية.

والنظام الضريبي في لبنان لا يزال يفصل بين الضريبة على الأرباح، والضريبة على الدخل، لا بل إن الفجوة بين الضريبة على الدخل والضريبة على الأرباح كبيرة لمصلحة أصحاب الرساميل. ورغم أن الضريبة على الدخل تظهر بأنها ضريبة تقدّمية، إلا أنها تخفي ضمناً كونها ضريبة تراجعية لا تخدم مبدأ إعادة توزيع الثروة. فعلى سبيل المثال، الضريبة على الأرباح الرأسمالية (المتأتية من التداولات في الأسواق المالية، كبيع الأسهم وغيرها) والضريبة على الفوائد المصرفية هي ضريبة موحدة، وثابتة على كل شرائح هذه الأرباح، بينما الضريبة على الدخل هي تصاعدية وتصيب مداخيل الأفراد بشكل واضح وقوي.

عملياً، الضريبة في لبنان هي ضريبة تراجعية، لأنّ ما يشكّل الجزء الأكبر من الاقتصاد اللبناني هو الأرباح وليس الدخل، وفرض ضريبة موحّدة ثابتة على الأرباح هو أمر يفيد أصحاب الأرباح الكبرى. لكن عندما اقتُرح توحيد «الصحن الضريبي»، أي وضع الضريبة على إجمالي الدخل من جمع كل مصادر الدخل في حسبة واحدة وفرض ضريبة عليها بشكل تصاعدي. وهذا الأمر هو مثال واحد على تحسين النظام الضريبي، فإنّ ممانعة ذلك كانت كبيرة.

هذا التحوّل في النظام الضريبي مهم جداً، وخصوصاً خلال الأزمة التي يعيشها لبنان اليوم. فمع فقدان الأسر لمدخراتها ولقدراتها الشرائية، لا بد من وجود شبكات أمان تحمي هؤلاء. ففي السابق، كانت الأسر تعتمد على مدخراتها ومداخيلها لتأمين خدماتها الصحية والتعليمية وغيرها. لكن اليوم بعدما خسر هؤلاء مدخراتهم في المصارف، وبعدما خسرت العملة المحلية أكثر من 97% من قيمتها، وانهيار أنظمة الضمان الصحّي، كالضمان الاجتماعي وصناديق التأمين العامّة، وعدم قدرة وزارة الصحّة على تغطية النفقات، لم يتبقَّ للأسر أيّ شيء للحصول على مثل هذه الخدمات.

لذا، من الطبيعي أن تكون الجهة التي تؤمّن هذا الغطاء للمواطنين هي الدولة اللبنانية. وهذا الغطاء يشمل الصحّة، من حيث تأمين التغطية الصحية للمقيمين، والتعليم وحتى دعم الغذاء والطاقة بشكل مدروس. كل هذه الأمور لا يمكن أن تؤمّنها الدولة اليوم بسبب الشحّ في مواردها، إلا أن تعديل النظام الضريبي بالشكل المناسب يشكّل فرصة لتأمين الموارد المالية اللازمة لقيام الدولة بهذا الدور، بدلاً من ترك المواطنين لمصيرهم. وواقعنا الراهن هو فرصة للقيام بعملية إعادة توزيع الثروة، في فترة هي الأكثر حرجاً في تاريخ البلد. لكن، يتضّح أن النظام اللبناني هو الشكل الأكثر وحشية للنظام الرأسمالي.

مصدرجريدة الأخبار
المادة السابقة250 مليار دولار كلفة السياسات الخاطئة
المقالة القادمةالمازوت يربك المستشفيات الحكوميّة: الكارثة آتية