250 مليار دولار كلفة السياسات الخاطئة

بين عامَي 2000 و2021، بلغت قيمة العجز المتراكم في الميزان التجاري اللبناني نحو 257 مليار دولار بمعدل وسطي يبلغ 11.7 مليار دولار سنوياً. يعكس هذا الرقم الهائل، نسبة إلى اقتصاد صغير مثل لبنان، سوء النموذج الاقتصادي. فالاستهلاك المموّل بالتدفقات الخارجية كان السمة الأساسية في بنية هذا النموذج الذي تفرّعت منه قنوات زبائنيّة للتوزيع الداخلي استفاد منها الخارج لتتحوّل إلى قنوات للتوزيع الخارجي أيضاً. استعملت آليات الدعم والصفقات لتحاصص الإنفاق الداخلي، بينما عقدت اتفاقات تجارية مع الخارج تشبه إلى حد كبير الصفقات الداخلية. هكذا، تغيّرت مسارات الاستيراد على مرّ السنوات، فيما بقيت نزف الدولارات الناتج من الاستيراد ضمن وتيرة تصاعدية بلغت ذروتها عام 2013 مسجّلة 17.5 وحافظت على مستوى مرتفع لغاية عام 2018 حين سجّلت 16.5 مليار دولار.

وفي هذا السياق، صنّف تقرير أصدرته «إسكوا» أخيراً، أداء لبنان في التوصل إلى الاتفاقات التجارية مع الاتحاد الأوروبي ومنطقة التجارة الحرة العربية بأنه «متدنٍ». فقد تبيّن أن المستفيد من هذه الاتفاقات هي الجهات الأخرى وليس لبنان. من أبرز المستفيدين الاتحاد الأوروبي الذي يعدّ أكبر «شريك تجاري» للبنان. عجز لبنان التجاري مع أوروبا أكبر من عجوزاته مع شركاء آخرين، ويعود ذلك إلى أن الاتفاقات التجارية التي وقعت مع الاتحاد الأوروبي «حدودية»، أي إنها تستهدف فقط الرسوم الجمركية، في حين أن الجيل الجديد من الاتفاقات التجارية هو أكثر عمقاً ويتضمن بنوداً عن تجارة الخدمات وسياسة المنافسة والتعاون التنظيمي وحقوق الملكية الفكرية. وانعكاس هذه الاتفاقيات على العجز التجاري بات واضحاً للعيان. ففي عام 2004 انضمّ لبنان إلى الاتفاقية التجارية للاتحاد الأوروبي، ثم دخلت هذه الاتفاقية حيّز التنفيذ في عام 2006. ومذاك، بدأ العجز التجاري يزداد. في عام 2006 كان العجز التجاري 8.9 مليار دولار، ثم ارتفع في سنة واحدة إلى 12.55 مليار دولار، ثم بلغ ذروته عام 2014 مسجّلاً 17.5 مليار دولار. أي إن العجز التجاري تضاعف خلال ثماني سنوات على انضمام لبنان إلى اتفاقية التجارة الحرّة الأوروبية. المسار نفسه حصل عندما وقّع لبنان مع تركيا اتفاقيات تجارة حرّة. ففي عام 2000 كان لبنان يستورد 898 منتجاً من تركيا، إلا أنه في عام 2019، أي بعد نحو تسع سنوات على توقيع مجموعة من الاتفاقيات، صار يستورد نحو 2267 منتجاً تركياً. والمنتجات التركية منافسة بشكل كبير للصناعات المحلية اللبنانية ومدعومة الكلفة.

في المقابل، لم تكن لدى لبنان قدرة على تطوير قاعدة صادراته بسبب محدودية القدرات الإنتاجية، بحسب تعبير «إسكوا»، أي ارتفاع كلفة التمويل. لكن في لبنان لم تكن هناك سياسة اقتصادية ساعية في اتجاه زيادة القدرات الإنتاجية المحلية، رغم أنه كان واضحاً بأن العجز في الميزان التجاري هو المصدر الأكبر لـ«تسرّب» العملات الأجنبية إلى الخارج. وقوى الحكم لم تكتف بإهمال الاقتصاد، بل شجّعت الاستيراد من خلال تثبيت سعر الصرف لفترة طويلة جداً وبشكل وهمي، ما منح الأجور قدرة شرائية وهمية.

العجز التجاري جاء نتيجة السياسات الخاطئة، لكن حتى عندما أظهر الانهيار النقدي والمصرفي أن السياسات الخاطئة تؤدي إلى انهيارات كبرى، لم تبادر السلطة السياسية إلى استهداف المشكلة الأساسية. والتمويل في ذلك الوقت لم يكن المشكلة، إذ كان لدى مصرف لبنان موارد سائلة بالعملة الأجنبية تبلغ 34 مليار دولار، لكن لم يخصّص أي دولار منها لأي تصحيح اقتصادي. لم ينفق أي قرش خارج إطار قنوات التوزيع التقليدية التي تعوم بالزبائنيّة والفساد. رفعت الكثير من الشعارات عن الاقتصاد المنتج لتخفيف الاعتماد المفرط على الاستيراد، لكن انتهى الأمر بإنفاق الأموال من خلال السياسات النقدية الرخيصة. صحيح أن هذه النفقات أسهمت في تخفيف وطأة الأزمة على اللبنانيين بشكل ظرفي لم يدم أكثر من أشهر عدّة، إلا أنه كان يمكن تخصيص بعضها ضمن برنامج زمني محدّد الأهداف لتقليص الوطأة على المدى الطويل. ففي نهاية الأمر استنفذت السيولة إلى حدّها الأدنى وتعمّقت مشكلات الاقتصاد.

مصدرجريدة الأخبار
المادة السابقةالدولة تحارب الفقر بقرض جديد: “المساعدات” هرطقة يحتاجها الفقراء
المقالة القادمةالضريبة على رؤوس الأموال: لبنان الأكثر توحّشاً