العالم يدرس تجربة لبنان وسعر الدولار: فريدٌ من نوعه

منذ التسعينات، ملأت الصحافة المحليّة أخبار التقارير والجوائز التي تغنّت بنجاح لبنان وحاكم مصرفه المركزي في تثبيت سعر صرف الليرة، والحفاظ على استقرار سوق القطع. بالإضافة إلى ثبات النظام المصرفي ومتانته. اليوم، انقلبت الآية، وصار لبنان نموذجاً من نماذج فشل السياسة النقديّة والماليّة، التي تدرسها التقارير الماليّة العالميّة وتقرأ في تجربتها، وتحذّر العالم من تكرار أخطائها.

الجديد اليوم، هو حلول لبنان في المرتبة الأولى عالميّاً من ناحية الفارق بين أسعار الصرف المتعددة. وهو ما أظهرته دراسة أعدها معهد التمويل الدولي حول تباين أسعار الصرف، ومستوى الاختلاف بينها في جميع الدول التي تشهد هذه الظاهرة. أما حساسيّة هذا المؤشّر بالتحديد، فتكمن في ما يعكسه من فوضى تشهدها سوق القطع اللبنانيّة، مقارنةً بالدول الأخرى التي تشهد أزمات متعلّقة بسعر صرف عملاتها المحليّة، كما يعكس هذا المؤشّر فشل السياسة النقديّة في لبنان التي يفترض أن تقلّص مستوى التباين بين أسعار الصرف المتعددة هذه. علماً أن حدوث هذا التباين في أسعار الصرف، يعني تلقائيّاً وجود حالة من عدم الانتظام والفوضى في سوق القطع والنظام المالي، فيما يؤشّر الفارق بين أسعار الصرف إلى حدّة المشكلة واتساع نطاقها.

فشل السياسة النقديّة في البلدان التي تتعدد فيها أسعار الصرف ويتوسّع الفارق بينها، وفي طليعتها لبنان، بات مصدراً لدروس يمكن تقديمها لجميع الدول العالم، لتتفادى الوقوع بالأخطاء نفسها. فحسب تقرير معهد التمويل الدولي، شهدت أسعار الصرف في الأسواق الموازية –أي السوق السوداء- ارتفاعات كبيرة في الدول التي قامت بما يُعرف بـ”تسييل العجز في الميزانيّة العامة”، أي الاعتماد على المصارف المركزيّة لطباعة النقد والاقتراض منها لتمويل الإنفاق الحكومي. فهذا النوع من الممارسات يؤدي عمليّاً إلى ضخ كميات من السيولة بالعملة المحليّة إلى السوق المحليّة، في مقابل شح تدفّق العملة الصعبة. وهو ما يؤدي في المحصّلة إلى ارتفاع سعر صرف العملة الصعبة مقابل العملات المحليّة في السوق الموازية، وبالتالي إلى زيادة الفارق بين سعر الصرف الرسمي وسعر صرف السوق الموازية.

في الواقع، تنطبق خلاصة معهد التمويل الدولي بشكل مثالي على الحالة اللبنانيّة، خصوصاً أن الميزانيّة العامّة في لبنان سجّلت خلال السنة الماضية عجزاً يقدّر بنحو 2.61 مليار دولار لغاية شهر أيلول، أي ما يقدّر بنحو 3.48 مليار دولار على أساس سنوي. وبغياب أي مصدر آخر للاقتراض، قامت الدولة اللبنانيّة طوال هذه الفترة بالاعتماد على مصرف لبنان لطبع العملة، والاقتراض منه لتمويل هذا العجز. وهو ما مثّل أحد أبرز أسباب تهاوي سعر صرف الليرة اللبنانيّة في السوق السوداء. علماً أن مستوى العجز هذا يشير إلى أن مصرف لبنان طبع ما يقارب 5.25 ألف مليار ليرة لبنانية لتغطية نفقات الدولة خلال العام الماضي. وهي كتلة ضخمة من السيولة تقارب قيمتها وحدها 80% من السيولة التي كانت متداولة في الأسواق خارج مصرف لبنان قبيل حصول الأزمة.

وكما يطرح التقرير مجموعة من الدروس المستخلصة من الحالة اللبنانيّة والحالات الشبيهة بها، يقدّم معهد التمويل الدولي مجموعة توصيات يمكن أن يستفيد لبنان منها للخروج من أزمته الراهنة. فتقليص الفوارق بين أسعار الصرف الرسميّة وسعر صرف السوق الموازية بشكل تدريجي، تمهيداً لتوحيد أسعار الصرف وتعويم السعر الرسمي، لا يعني الدخول في مرحلة التضخّم بالضرورة، خصوصاً إذا توازت هذه الإجراءات مع رزمة من الإصلاحات الاقتصاديّة المناسبة، ومع عودة التدفقات الماليّة من الخارج، وإذا تمتعت البلاد برزمة دعم ماليّة من صندوق النقد تسمح بالسيطرة على سعر الصرف خلال المرحلة الإنتقاليّة.

لكل هذه الأسباب، من المتوقع أن نخرج قريباً من مرحلة تعدد أسعار الصرف، أو على الأقل من مرحلة اعتماد أسعار صرف معيّنة لدعم الاستيراد. وذلك ببساطة لأن مصرف لبنان لم يعد قادراً على تقديم هذا الدعم اليوم. لكنّ الخروج من هذه المرحلة سيحمل كلفة اجتماعيّة باهظة جدّاً، وستكون تجربة لبنان في الخروج من مرحلة تعدد أسعار الصرف بدورها درساً لأمم العالم التي تمر بأزمات مشابهة، لتدرك ثمن التغاضي عن إجراء الاصلاحات المطلوبة بعد الوقوع في أزمات ماليّة ونقديّة من النوع الذي شهدناه.

مصدرالمدن - علي نور
المادة السابقةشَطْب أسهم سوليدير وثلاثة مصارف: لا تمويل للبنان
المقالة القادمةكيف افتتح سعر صرف الدولار في السوق السوداء صباح اليوم؟