العودة إلى المدارس: منهجية غائبة ومجازفة كبرى

بعد انقطاع دام نحو 7 أشهر، يعود اليوم التلامذة إلى مقاعدهم. العودة تشوبها مشاعر مختلفة من القلق والحذر والحماسة والترقّب والإرباك لدى المعلمين والتلامذة وإدارات المدارس على السواء. كل هذا في ظل ضبابية الرؤية للمرحلة المقبلة، ربما نتيجة التخوف من عدم التأقلم مع ظروف الوضع الجديد، أو التوجس من غياب الأمن الصحي، والقلق من عدم استجابة التلامذة والمعلمين للواقع التعليمي المستجد.
‎لا خلاف على أن العودة تأتي بعد تحديّات كثيرة واجهها القطاع التعليمي، خصوصاً في التعليم عن بُعد الذي أظهر فعالية ضعيفة نتيجة سوء البنية التحتية (إنترنت، كهرباء، إلخ)، وعدم امتلاك التلامذة والمعلمين وأولياء الأمور المهارات الكافية، فضلاً عن قلّة الموارد الرقمية والبرامج والمنصات اللازمة لهذا التعليم.
تأتي العودة بعد استطلاع رأي إلكتروني، استجاب له نحو 5300 مستطلع من معلمين وأولياء أمور ومديري مدارس وتربويين؛ أيّد 57% منهم العودة إلى التعليم الحضوري، وبرّروا الأمر بأن الأولاد يمارسون حياتهم بشكل عادي من دون تدابير وقائية كما ينبغي (رحلات، حفلات، مسابح…)، فيما المدارس أكثر أماناً ووقاية من كلّ الأماكن التي يمضون أوقاتهم فيها. فضلاً عن أن الوباء، بحسب رأيهم، أصبح أمراً يجب التعايش معه باعتبار أن لا مدى زمنياً واضحاً للتخلّص منه، إضافة إلى فشل تجربة التعليم عن بُعد. وفي المقابل، رأى نحو 35% ضرورة تأجيل العودة أسبوعين أو أكثر، في حين رفض 4 في المئة فقط التعليم عن بُعد بشكل دائم.
‎ومطالبة فئة مقبولة بضرورة تأجيل التعليم الحضوري لأسبوعين أو أكثر، يندرج في إطار القلق من تحوّل المدارس إلى بؤر لتفشّي الوباء، في ظلّ شكوك بجهوزيتها وقدراتها على مواجهة تحدّيات المرحلة المقبلة، لا سيما الصحية منها.
‎لا شكّ في أن الصورة المطبوعة عن المدرسة في أذهان المعلّمين والتلامذة وأولياء الأمور وكلّ العاملين في القطاع التعليمي، ستكون مغايرة هذا العام، والتحديات الجديدة ستعيد حتماً تشكيل صورتها ودورها.
‎تحدّيات كثيرة تدفعنا كباحثين بداغوجيين وديداكتكيين إلى طرح كثير من الأسئلة حول قدرة المدرسة حالياً على مواجهة تحدّيات المرحلة المقبلة، خصوصاً في غياب تقييم منهجي حول الاستعداد للعودة، ومدى نجاح خطّة هذه العودة التي ينبغي أن تقوم على محورَين أساسين: الإجراءات الوقائية، تنظيم عملية التعليم وإدارتها.

هل تمّ تقصّي حالات المعلمين والتلامذة من ذوي الأمراض المزمنة؟

‎على المستوى الوقائي، ثمة تساؤلات كثيرة مقلقة ستكون الإجابة عنها رهناً بالأيام المقبلة: هل ستلتزم المدارس فعلاً التدابير الاحترازية كما تفرض شروط البروتوكول الصحي؟ هل جرى التأكّد من تأمين المدارس للإجراءات اللازمة (غرفة عزل للحالات التي تظهر عليها العوارض، تجهيز المكان الذي سيخضع فيه التلامذة لفحص درجة الحرارة بطريقة لا تؤدّي إلى الاكتظاظ، وضع ملصقات إرشادية في مرافق المدرسة للتذكير بالالتزام بالإجراءات، توزيع الغرف الصفيّة بشكل يضمن التباعد…)؟ وهل تمّ التأكد من توفّر جميع الأدوات والمواد اللازمة المطلوبة حسب البروتوكول الصحي في جميع المدارس؟ هل تمّ التأكّد من اطّلاع المعلمين وأولياء الأمور والتلامذة على مضمون البروتوكول؟ وهل أُشركت مجالس الأهل في التحضير والتخطيط؟ هل تمّ تقصّي حالات المعلمين والتلامذة من ذوي الأمراض المزمنة الذين يمكن أن يكونوا أكثر عرضة للإصابة، ووضع تدابير لكيفية وجودهم في المدرسة؟ هل ستوفر الوزارة الكمامات والمستلزمات الوقائية للتلامذة بشكل دائم، وهل ستوفر وزارة الصحة فحوصاً مجانية للمعلمين والتلامذة الذين تظهر عليهم العوارض؟ وهل ستكون هناك فعلاً مواكبة صحيّة لوزارة الصحة في كل مدرسة؟ هل تمّ تدريب الأهل على الإجراءات التي ينبغي القيام بها فور عودة أولادهم إلى المنزل، لناحية تقليص مخالطتهم كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة، خصوصاً أن الأولاد هم وسيلة نقل للوباء أكثر من احتمال إصابتهم به؟
‎في ضوء ذلك، ثمّة تحديات أخرى ستواجه المعلمين: هل تدرّب هؤلاء على كيفية التعامل مع القلق الذي سيصاحب التلامذة، وكيفية مساعدتهم للتعبير عن قلقهم وتقديم الدعم النفسيّ لهم؟ وهل تمّت تهيئة المعلمين نفسياً وذهنياً للعودة إلى التعليم وجاهياً كونهم أكثر عرضة للإصابة بسبب كثرة الاختلاط الذي سيقومون به بين الصفوف ومع زملائهم؟
‎أمّا التلامذة فسيجدون أنفسهم أمام واقع تعليميّ جديد رغم أن التعليم الحضوري يوفّر لهم البيئة التفاعلية التي تصقل شخصيتهم وتعزّز مهاراتهم. الإجراءات (التباعد، الكمامة) ستُفقد التلامذة حرية التواصل مع المعلمين ومع زملائهم، وطرح الأسئلة بشكل دائم بسبب ظروف ارتداء الكمامة، وفقدان الصف التعليمي لجوّ النقاش والحوار بشكل كبير، وافتقاده لجميع الأنشطة الجماعية (احتفالات، مباريات، عروض فنية…).
‎كذلك فإنّ العملية التعليمية ستفقد جزءاً كبيراً من مقوماتها (تقليص المحتوى التعليمي إلى النصف، عدم القدرة على القيام بالطرائق التعلمية التي تتطلّب عملاً جماعياً واستراتيجيات تعليمية تعاونية، تقليص استخدام الأدوات التعليمية للحد من نقل الوباء عبرها خصوصاً في المختبرات…).
‎ثمة أسئلة أخرى تطرح: هل سيستطيع التلامذة الحصول على الكتب المدرسية في أقرب وقت ممكن؟ هل استُطلع رأي مديري المدارس بشأن مدى استعداد مدارسهم لإلحاق التلامذة؟ هل ستكون المدارس جاهزة لتعويض غياب المعلّمين في حال إصابتهم بالوباء أو خضوعهم لحجر مطوّل؟ وماذا إذا تجاوز العدد الحدّ المقبول في أيّة مدرسة؟ وكيف سيتم التعامل مع المدارس والصفوف التعليمية التي تظهر فيها إصابات؟ ماذا عن استعدادات المدارس الرسمية؟ هل توافرت الأموال اللازمة في صناديقها لتوفير كل متطلبات الوقاية ومستلزمات العمليتين التعليمية والإدارية؟
‎نجاح العودة يتطلب تضافر جميع الجهود المدرسية (تلامذة، معلمين) ومجتمعية (أولياء أمور، مؤسسات أهلية، منظمات المجتمع المحلي، أطباء، بلديات، مستشفيات…) لتحقيق كل الشروط والتدابير والإجراءات الجديرة بتجاوز هذه المرحلة، وإلّا فإننا سنخوض مجازفة كبرى قد تؤدي إلى تعريض التلامذة وأهاليهم لخطر الوباء فضلاً عن خسارة التلامذة عاماً دراسياً جديداً.

 

مصدرماجد جابر - باحث تربوي
المادة السابقةسوق الأحد الطرابلسي متنفّس الناس في زمن الضيق
المقالة القادمةالعرق الزحلاوي يجتهد لاقتناص فرصة من الأزمة