الكابيتال كونترول و”الثالوث المستحيل” في لبنان! إجراء ظرفي بدون خطة بنيوية…

على الرغم من أنّ تنظيم حركة الرساميل كان يفترض أن تحصل فور انفجار الأزمة المالية-النقدية-المصرفية في لبنان كما هي الحال في البلدان التي شهدت وجهاً من تعدد أوجه الأزمة اللبنانية، الّا أنّ تمادي الفوضى لا يلغي ضرورة التنظيم والمساواة ولو بعد حين. اليوم لم يعد من مفرّ لتقديم رؤيا موحّدة لضبط التعامل بين المصارف والمتعاملين معها في الداخل والخارج، لا سيما لتأمين ما يمكن أن يتبقّى من مساواة في المعاملات المصرفية من جهة، ولإقناع المجتمع الدولي بالنية بوقف الفوضى والاستنسابية وجدّية القرار، بالسعي لانتظام الخطوات للخروج من الأزمة واستعادة الثقة، بدءاً من تنظيم التعامل مع حركة الرساميل. فماذا يعني أساساً تنظيم حركة الرساميل في علم الاقتصاد لبلد صغير نامٍ منفتح كما هي حال لبنان؟ وكيف يمكن ترجمته من خلال ما يُعرَف بـ”الثالوث المستحيل” في علم الإقتصاد؟ وما هي أبرز الهواجس إزاء الصيغة المقترحة لقانون “الكابيتال كونترول” في لبنان؟

من أبرز الأدبيات الإقتصادية حول حرية حركة الرساميل هو ما طرحه ستانلي فيشر Stanley Fisher، النائب الأول للمدير العام لصندوق النقد الدولي (IMF) حينها، منذ ما يقارب عقدين من الزمن. على الرغم من إدراكه لمخاطر حرية حركة رأس المال، أثبت بأن الحل لا يتمثّل في الحفاظ على الضوابط على حركة رأس المال، بل بإجراء الإصلاحات اللازمة للتخفيف من هذه المخاطر.

هذا النقاش حصل حين كان صندوق النقد الدولي يسعى بنشاط إلى تكريس تحرير حساب الرساميل في أنظمته الأساسية. لكن الأزمات المالية تلتها بعد ذلك في العالم، في آسيا والبرازيل والأرجنتين وروسيا وتركيا وأخيراً في أوروبا والولايات المتحدة. في عام 2010، نشر مذكرة تقرّ بأن ضوابط رأس المال كانت جزءًا من ترسانة أدوات السياسة التي تهدف إلى مكافحة عدم الاستقرار المالي.

ومع ذلك، فإن الرأي السائد، سواء في صندوق النقد الدولي أو في البلدان المتقدمة ، هو أن ضوابط رأس المال يجب أن تكون أداة الملاذ الأخير – لاستخدامها فقط عندما يتم استنفاد السياسات المالية وسياسات الاقتصاد الكلي. تظل حرية حركة رأس المال هي الهدف النهائي، حتى لو استغرقت وقتًا لتحقيقها في بعض البلدان.

لكن هذا الموقف به مشكلتان. الأول، كما أشار مؤيدو حرية حركة رأس المال مرارًا وتكرارًا، أن البلدان يجب أن تَفي بقائمة طويلة من الشروط المسبقة قبل أن تتمكن من الاستفادة من العولمة المالية. وتشمل هذه الشروط حماية حقوق الملكية، والإنفاذ السليم للعقود ، والقضاء على الفساد، وتحسين المعلومات المالية والشفافية، وممارسات إدارة الشركات السليمة، والاستقرار المالي والسياسة النقدية السليمة، والقدرة على تحمل الديون، وأسعار الصرف التي يحددها السوق ، والتنظيم المالي رفيع المستوى والإشراف الاحتياطي. بمعنى آخر، تتطلب السياسة التي تهدف إلى تعزيز النمو في الدول النامية وجود مؤسسات في الدول المتقدمة قبل أن تصبح نافذة المفعول.

المسألة الثانية هي احتمال أن تضرّ تدفقات رأس المال بالنمو، حتى أنها تتجاهل المخاوف بشأن الهشاشة المالية. يفترض أنصار حرية حركة رأس المال أن الاقتصادات الفقيرة تقدّم العديد من فرص الاستثمار المربحة التي لا يتم استغلالها بسبب نقص الأموال للاستثمار. من هنا، يدعون هذه البلدان الى السماح بتدفق الرساميل، وسوف ينطلق الاستثمار والنمو.

لكن العديد من البلدان النامية يعوقها نقص الطلب على الاستثمار، وليس نقص المدخرات المحلية. العائد الاجتماعي على الاستثمار مرتفع، لكن عائدات القطاع الخاص منخفضة بسبب العوامل الخارجية أو الضرائب المرتفعة أو المؤسسات الضعيفة أو عدة عوامل أخرى.

في سياق حركة العملات الأجنبية والسياسات النقدية والمالية المستقلة، يمثّل تدفق رأس المال المستمر تحدياً ثلاثي الأبعاد لبلد صغير:

أولاً، خطر أزمة ميزان المدفوعات عندما ترتفع نسبة الدين الخارجي بالنسبة للاقتصاد الوطني.

ثانياً، خطر أزمة السيولة وأزمة سعر الصرف عند تزايد الدين بالعملات الأجنبية قصير الأجل نسبة إلى الأصول الأجنبية السائلة.

ثالثاً، خطر حدوث أزمة مصرفية محلية عندما يتعلق الأمر بالمصارف المحلية التي اقترضت بالعملات الأجنبية للإقراض بالعملات المحلية أو القبول باستعادة القروض بالعملة المحلية، بعد منحتها بالعملات الأجنبية (مثلما يحصل اليوم في لبنان في الفوضى الحاصلة) مما يؤثر على ملاءة المصارف المحلية ويتسبّب بانهيار سعر الصرف.

في الواقع، يمكن أن تهيمن تدفقات رأس المال الداخلة والخارجة في المدى القصير على سعر الصرف: إذا كان الأخير ثابتاً، فإنّ الدولة تخاطر بنفاد الاحتياطيات بالعملات الأجنبية، كما حصل تماماً من قِبل مصرف لبنان في إطار تنفيذه لخيار التمسّك بالمحافظة على سعر الصرف الرسمي حتى بعد استنزاف الاحتياطي بالعملات الأجنبية، لا سيما مع سياسة دعم استيراد المنتجات التي اختارتها السلطات الرسمية في السنتين الأخيرتين بعد انفجار الأزمة، وطيلة سنوات قبل ذلك، من خلال الضغط على تحقيق “ثالوث مستحيل” في علم الإقتصاد، وهو محاولة الاحتفاظ بتثبيت سعر صرف الليرة في ظلّ نظام حرية انتقال الرساميل والسعي لتطبيق “إستقلالية المصرف المركزي” وفق قانون النقد والتسليف، وهو ما كان مستحيلاً بوجود العاملين السابق ذكرهما في الوقت عينه.

فالمعروف أنّه في ظلّ حرية حركة الرساميل التي كان يضمنها نظام الاقتصاد الحر المنفتح في لبنان، من الضروري الاختيار بين التضحية بثبات سعر الصرف والإبقاء على مرونته، لترك هامش تحرّك للمصرف المركزي لاعتماد الاستقلالية في تحديد وتنفيذ سياسته النقدية الهادفة الى المحافظة على القدرة الشرائية للعملة الوطنية ومكافحة التضخّم وإدارة السيولة في السوق، أو القيام بالعكس تماماً، أي التضحية باسقلالية المصرف المركزي عبر توجيه خياراته للحفاظ على تثبيت سعر الصرف عبر ربط سعر صرف العملة الوطنية بالعملة الأجنبية الأكثر تداولاً واستقراراً وتعاملاً دولياً وهي الدولار الأميركي، خصوصاً بعد اعتماده كعملة ثانية إلى جانب الليرة اللبنانية منذ الأزمة النقدية التي عرفها لبنان في الثمانينات، والتي أطلق على أثرها مسار دولرة مرتفعة غير رسمية ولكنها “مفروضة” من قِبل القطاع الخاص كأمر واقع منذ ذلك الحين، بغرض الهروب من خطر تقلّبات سعر الصرف وافتقاد العملة الوطنية لمهامها الأساسية في الثمانينات كأداة تسعير وتسديد للعمليات الشرائية الكبرى والمحافظة على القدرة الشرائية على المدى البعيد وصعوبة استعادة الثقة منذ ذلك الحين، على الرغم من جهود وكلفة تثبيت سعر الصرف على مدى 22 عاماً. علماً أنّه الخيار الأكثر فعالية لتحقيق الاستقرار النقدي في ظل اقتصاد مدولر كما هي الحال في لبنان، حيث لا نفع من الاكتفاء بإدارة السيولة بالليرة اللبنانية طالما الحصة الأكبر من السيولة المتداولة في السوق هي بالدولار الأميركي.

إلّا أنّ التحسينات التي كانت ممكنة ومطلوبة كانت تكمن في معدّل سعر الصرف المناسب لعملية الربط بين العملتين وفق تطوّر المؤشرات الماكرو-إقتصادية، خصوصاً منها ميزان المدفوعات، الذي يُظهّر رصيد دخول وخروج العملات الأجنبية لمختلف الأسباب بين لبنان والخارج، فضلاً عن سعر هامش تحرّك سعر الصرف ومرونة تدخّل المصرف المركزي في المحافظة عليه، بما يُبقيه ضمن مستوى مقبول من دون استنزاف كبير متواصل للاحتياطي بالعملات الأجنبية.

إنّ تدفق رأس المال، عن طريق خلق طلب زائد على النقد الوطني، يؤدي تلقائياً إلى ارتفاع قيمة العملة الوطنية، ما لم يخزّن البنك المركزي جميع التدفقات الواردة في احتياطياته بالعملات الأجنبية. لبعض الوقت، إنّ المبالغة في تقييم العملة تحافظ على أسعار السلع المستوردة منخفضة، بينما في ارتفاع الأسعار يتمّ تعويض سلع التصدير من الاستثمارات الممولة من القروض الخارجية.

قبل زيادة إنتاجية البلاد وقدرتها على التصدير واستقطاب الاستثمار والتوظيفات الخارجية، غالباً ما يظهر سعر الصرف مبالغاً فيه، تماماً كما شهده لبنان، لا سيما مع تراكم عجوزات ميزان المدفوعات منذ العام 2011 في لبنان، باستثناء سنوات الهندسات المالية عامي 2016 و2017 التي استقطبت بعض الرساميل من الخارج لشراء الأوروبوند وشهادات إيداع المصرف المركزي بالعملات الأجنبية أي لإقراض القطاع العام (بين خزينة الدولة ومصرفها المركزي). الأمر الذي يؤدي تلقائياً الى ارتفاع الدين الخارجي الصافي بالعملات الأجنبية بالنسبة للاقتصاد المحلي (الناتج المحلي الإجمالي).

وبالتالي، إنّ لحظة حدوث أي خطأ في السياسات، والتوجّه المفرط لرأس المال المقترض نحو السلع غير القابلة للتداول، والمبالغة في التقييم المفرط للعملة والعجز الكبير في الحساب الجاري، في سياق ضعف في الاحتياطيات بالنسبة للديون الخارجية قصيرة الأجل، لا بدّ أن يُترجم ذلك بخطر إثارة أزمة ثقة في البلاد، وخروج جماعي مفاجئ وهائل للرساميل وانهيار سعر الصرف.

كما أنّ المصطلح العام للأزمة المالية يجمع هذه الأنواع الثلاثة للأزمات: أزمة ميزان المدفوعات، وأزمة السيولة ومعدل سعر صرف العملة، والأزمة المصرفية المحلية.

من هنا، ولتجنّب الأزمات المالية والنقدية، فإنّ حرية التنقّل الدولي المجاني لرأس المال تتطلب نظرياً ظروف استقرار مماثلة لتلك الموجودة داخل البلدان التي تعتمدها.

أما أبرز الهواجس التي يعكسها العملاء الاقتصاديون اليوم إزاء مشروع قانون “تنظيم وضع ضوابط استثنائية ومؤقتة على بعض العمليات والخدمات المصرفية”، فهو أنه لا يأتي من ضمن خطة استراتيجية متكاملة، في الوقت الذي يفترض أن يكون ضبط حركة الرساميل مجرد إجراء ظرفي ضمن خطة نهوض بنيوية للاقتصاد. وإن كان القرار هو ضبط السيولة المتبقية بالعملات الأجنبية، فمن الملحّ وضع خطة استراتيجية من جهة أولى لشرح سُبل ترشيد استعمال السيولة المتبقية بالدولار الأميركي، ومن جهة ثانية لكيفية تأمين استمرارية استيراد المواد الضرورية من الخارج مما يتطلّب جردة دقيقة وشفافة لحسابات مصرف لبنان وتقييم للحاجات الأساسية من قبل الوزارات المعنية. وتوفّر هذه الخطة الإطار الصحيح الذي يبنى على أساسه مشروع قانون القيود المالية ويتم تضمينه في الأسباب الموجبة للقانون. ومن جهة ثالثة اتخاذ القرار بشأن نظام القطع حيث لم يعد من مفر من اللجوء الى نظام الربط الصارم Hard Peg لليرة اللبنانية وسط الارتفاع الهائل لمعدّل الدولرة الذي لا يسمح بالإبقاء على نظام الربط المرن الحالي ولا باللجوء الى النظام الحر العائم، فلا يبقى سوى مجلس النقد/الدولرة الشاملة. وهذا يتطلّب اعتماد سعر صرف يتم على أساسه الذهاب الى الربط الصارم مما يحتاج أيضا كمية معيّنة من الاحتياطي بالعملات الأجنبية…

يبقى القول ان الاجراءات الظرفية لا يمكن تنفيذها بمعزل عن الرؤيا البنيوية التي تتطلّب بدورها جردة دقيقة وشفافة لحسابات مصرف لبنان وتقييم للحاجات الأساسية من قبل الادارات العامة المولجة. من لا ينظر لبعيد يخاطر بالوقوع مجددا عن قريب، بل يخاطر في إمكانية النهوض عما قريب…

 

مصدرالجمهورية - د. سهام رزق الله
المادة السابقةوكالات تصنيف دولية تشكّك بإعادة هيكلة ديون لبنان السيادية
المقالة القادمةرابطة المودعين تؤكّد رفضها المطلق لقانون الكابيتال كونترول