المال السوري والمؤسسات المصرفية اللبنانية: «حِكّلي لحِكّلك»!

لم يكن لبنان منفذاً اقتصادياً لسوريا على العالم في لحظات الحصار عليها فحسب، بل مثّل أيضاً ممرّاً لمليارات الدولارات التي دخلت أو خرجت «تحت جنح الظلام» من وإلى سوريا. ولذلك، فإن أيّ هزّة نقدية تقع في لبنان، لا بدّ وأن يشعر السوريون بارتداداتها بشكل مباشر، بسبب حجم الارتباط المعقّد بين حركة النقد والعملات الصعبة في كلا البلدين

حتى في سنوات الرخاء السوري، حافظ لبنان على مكانته كوجهة مفضّلة لكثير من الأنشطة الاقتصادية السورية. وهذا ما كان يقابله أيضاً سعي لبناني محموم للاستفادة من الفرص الاستثمارية المتاحة في السوق السورية من جهة، ومن مرونة الجهاز المصرفي اللبناني لاستقطاب المزيد من الودائع والتحويلات السورية الخارجية من جهة أخرى. لذلك، كان من الطبيعي في سنوات الحرب والحصار أن يتحول لبنان إلى متنفّس اقتصادي حيوي للسوريين، وملجأ للكثيرين منهم، إما لموقف سياسي معارض، وإما هرباً من جحيم المعارك. إلا أن أكثر ما استقطب الاهتمام في شكل العلاقة الاقتصادية الجديدة المتشكّلة مع لبنان بفعل الحرب الحالية، كان حدثين اثنين: الأول هو النزوح الكبير للأموال السورية نحو البنوك اللبنانية طيلة سنوات الأزمة، والثاني ارتفاع حجم الحوالات المرسَلة من سوريين في الخارج عبر قنوات لبنانية، رسمية وغير رسمية، إلى أقاربهم ومعارفهم. هذان الحدثان أثبتت التطورات اللبنانية الأخيرة تأثيرهما العميق في أداء الاقتصاد السوري.

الودائع الطائرة
ليست علاقة المال السوري بالمؤسسات المصرفية اللبنانية وليدة الأزمة السورية، بل إن جذورها تعود إلى بدايات ثمانينيات القرن الماضي، عندما زادت حسابات السوريين المفتوحة لدى البنوك اللبنانية، وذلك تحت تأثير ضغط عاملَين أساسيين: الحصار الاقتصادي الغربي غير المعلَن الذي تعرّضت له سوريا آنذاك، والقيود البيروقراطية الشديدة المفروضة على عمل المصارف الحكومية التي لم يكن يُسمح لها بفتح حسابات للمتعاملين بالقطع الأجنبي. ولعلّ الدور المالي الذي لعبته بلدة شتورا اللبنانية يجلّي بوضوح تلك العلاقة؛ إذ أن معظم المؤسسات المصرفية اللبنانية افتتحت فروعاً لها في البلدة الحدودية، بغية إدارة تعاملاتها مع الفعّاليات الاقتصادية السورية. وبحسب المصرفي السوري، أنس فيومي، فإن «هذه العلاقة جدّدت نفسها مع سماح الحكومة السورية للمصارف الخاصة بداية العقد الماضي بالعمل، وذلك عبر مساهمة البنوك اللبنانية في تأسيس العديد من المصارف الخاصة داخل سوريا، واستحواذها على نصيب كبير من أسهمها». ويضيف فيومي، في حديث إلى «الأخبار»، أنه أمام «تأخّر المصارف السورية الخاصة في ترك بصمة حقيقية في العملية التنموية الوطنية، والضخّ الإعلامي الكبير الذي رافق بدايات الأزمة ووصل إلى مرحلة إعلان حرب على الاقتصاد السوري، حدثت سحوبات مالية كبيرة من المصارف العامة أثّرت كثيراً في وضع السيولة لديها، حيث جرى تحويل الجزء الأكبر من الأموال المسحوبة إلى الخارج بمساعدة مصارف لبنانية لقاء عمولات كبيرة، وبعضها بقي في لبنان إما على شكل ودائع مصرفية أو استثمارات مختلفة»، هذا فضلاً عمّا يؤكده المصرفي عامر شهدا من «قيام مصارف خاصة مع بداية الأزمة بتحويل كتل نقدية إلى المصارف الأم في بيروت، استُخدمت لاحقاً في تمويل مستوردات تجار سوريين».

لم يبقَ حالياً في المصارف اللبنانية سوى ما يقرب من 10 مليارات دولار من الودائع السورية

وتحت شعار الالتزام بسرية العمل المصرفي، بقي حجم هذه الأموال ومصيرها غامضاً. إذ وعلى مدار السنوات التسع الماضية، لم تصدر أيّ بيانات رسمية من كلا البلدين تُوثّق حجمها والدول التي اتجهت إليها، الأمر الذي شجّع باحثين ومصرفيين على إطلاق تقديرات غير رسمية. وفي هذا الإطار، يقول شهدا، في حديثه إلى «الأخبار»، إن «إجمالي الودائع السورية التي استقبلتها المصارف اللبنانية مع بدايات الأزمة وصل حجمها إلى ما يقرب من 30 مليار دولار خرج معظمها نحو دول أخرى، بحيث لم يبقَ حالياً في المصارف اللبنانية سوى ما يقرب من 10 مليارات دولار، وهي غالباً عبارة عن ودائع بمبالغ صغيرة»، في حين يشير الفيومي إلى أنه «مقابل نفي البعض أو تأكيده، كان هناك من يتحدث عن رقم كبير وصل إلى نحو 100 مليار دولار. وبحسبة بسيطة لحجم الانخفاض الحاصل في سيولة المصارف العامة مع بدايات الأزمة ومقاربته مع سعر الصرف السائد آنذاك، يصبح ذلك الرقم ربما قابلاً للتصديق».

الحوالات
ما إن بدأ سعر صرف الليرة السورية يتذبذب أمام العملات الأجنبية، وتالياً يتباعد الفارق بين سعر الصرف المعتمد من قِبَل المصرف المركزي وسعر السوق الموازي، حتى عادت الحوالات المالية الى الخارج لتسلك، وبحجم ليس بالقليل، إما طريق مكاتب الصرافة غير المرخّصة داخلياً، أو القنوات المصرفية والمالية في الدول المجاورة، وتحديداً في لبنان. وهنا أيضاً، بقيت الظاهرة غامضة في ظلّ غياب أيّ تقديرات رسمية صادرة عن الدول المعنية بحوالات السوريين، فيما تذكر التقديرات غير الرسمية أرقاماً متباينة، لعلّ أبرزها ما يلفت إليه شهدا من أن «بعض مراكز الدراسات الألمانية قدّرت حجم ما يُحوّله المغتربون واللاجئون السوريون في أوروبا إلى بلادهم بنحو 4 مليارات دولار سنوياً، وعلى إثر ذلك قامت الحكومة الألمانية بالتحقق من هذا الرقم، وفرضت حظراً على تحويل اللاجئين لأيّ مبالغ إلى دولهم ومن بينها سوريا». ويضيف شهدا أن «الكتلة النقدية التي كان يُحوّلها السوريون إلى لبنان تشكل ما يقرب من مليونَي دولار يومياً، وهي تضاءلت تدريجياً مع بداية عام 2018. أما بالنسبة إلى معظم تحويلات السوريين، فكانت تتجه نحو تركيا والإمارات». لكن هناك من يتوقّع حجماً أكبر للحوالات السورية القادمة عبر البوابة اللبنانية، مُقدّراً إياها بـ5 ملايين يورو يومياً، مبرراً ذلك بالعدد الكبير من السوريين المتواجدين في الخارج كعاملين أو لاجئين أو مهاجرين أو حتى مغتربين، وبالعقوبات المصرفية المفروضة على سوريا، والتي تحول دون إرسال السوريين أيّ مبالغ مالية إلى ذويهم وعائلاتهم مباشرة بواسطة القنوات المصرفية السورية، فضلاً عن الفارق الكبير في سعر صرف الليرة بين المصرف المركزي والسوق الموازي.

الاستيقاظ المتأخّر
لم يشعر السوريون بخطورة التشوّهات الحاصلة في العلاقة المالية والمصرفية مع لبنان إلا لدى اندلاع الأزمة الأخيرة في هذا البلد، والتي رافقها توقف المصارف اللبنانية عن العمل لأيام طويلة، ثم وضعها قيوداً صارمة على السحوبات اليومية، قيوداً زادت، بحسب مدير المصرف الصناعي السابق قاسم زيتون، «من قلق المودعين، والسوريين تحديداً، فلجأوا الى السوق السورية لتأمين احتياجاتهم من الدولار لتمويل أعمالهم التجارية، إذ أن معظم التجار لدينا يودعون أموالهم في المصارف اللبنانية ويمارسون التجارة في سوريا، ونتيجة لذلك زاد الطلب على الدولار بشكل غير مسبوق في سوريا، وخلال فترة زمنية قصيرة، فكانت النتيجة الطبيعية ارتفاع سعر صرف الدولار بشكل جنوني، مع ملاحظة أن المضاربين في سوق القطع السوري جاهزون دوماً لاقتناص مثل هذه الفرص». ويرى زيتون، في حديثه إلى «الأخبار»، أن «الأزمة اللبنانية ستبقى تؤثر سلبياً في سعر الصرف في سوريا طيلة مدة الأزمة، لكن على المدى الطويل ستنعكس الأزمة اللبنانية بشكل إيجابي على سعر الصرف هناك؛ فالمصارف السورية، وعلى رغم أزمة البلاد الطويلة، لم تتخذ إجراءات من شأنها التضييق على المودعين كما حصل في لبنان، وهذه نقطة ستحصد ثمارها مستقبلاً، بحيث ستكون الملاذ الآمن للمودعين، وخاصة السوريين».
لكن الوصول إلى ذلك يحتاج برأي كثيرين أيضاً إلى اتخاذ إجراءات وقرارات سياسية واقتصادية إصلاحية ملائمة لإعادة استقطاب المليارات الموجودة خارج البلاد، سواء التي خرجت في فترة الأزمة أم تلك التي مضى على وجودها في الخارج زمن طويل، إلى جانب معالجة مسألة الفارق في سعر صرف الحوالات، كأن تتم معاملتها بسعر تفضيلي كحال منظمات الأمم المتحدة العاملة في سوريا، بحيث تعود حوالات السوريين في الخارج لتسلك مجراها الطبيعي عبر مكاتب الصرافة المرخصة في سوريا، ومن دون الاضطرار للمرور عبر قنوات الدول المجاورة غير القانونية.

مصدرزياد غصن - الأخبار
المادة السابقةالخبير باز: لا مفرّ من طلب مساعدة مالية دولية
المقالة القادمة«الكارثة الصحيّة».. مؤتمر ووقفة تضامنية