المركز اللبناني للدراسات: خريطة طريق نحو تعافي قطاع الزراعة

بينما يرزح لبنان تحت وطأة الانهيار الاقتصادي، يقفُ القطاعُ الزراعي على مفترق طرق بين اليأس والأمل. ومع تزايُد التحدّيات منذ بداية الأزمة الاقتصادية في تشرين الأوّل/أكتوبر 2019، شهدَت الزراعة تدهوراً متسارعاً، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية في ظلّ المخاوف المُلِحّة بشأن الأمن الغذائي. وفي هذا الصدد نشر المركز اللبناني للدراسات تقريراً من اعداد لينا س. مدّاح، سالم درويش بدعم من مؤسسة فريدريش ناومان من أجل الحرية،

جاء فيه ما يلي:

دور ثانوي

تؤدّي الزراعة دوراً ثانوياً نسبياً في اقتصاد لبنان، وذلك على الرغم من احتواء البلد على أعلى نسبة من الأراضي الصالحة للزراعة في العالم العربي. فمع أكثر من 200000 هكتار (494000 فدّان)، تُمثِّل الزراعة 5 في المئة فقط من إجمالي الناتج المحلّي الوطني، وتستأثر بـ 8 في المئة من اليد العاملة الفعّالة. وفي المناطق الريفية مثل عكار والضنية والبقاع الشمالي، تُساهِم الأنشطة الزراعية بشكل كبير في إجمالي الناتج المحلّي، حيث تُشكِّل ما يَصِل إلى 80% من الناتج الاقتصادي.

صناعة الاغذية

وبالإضافة إلى إنتاجه الزراعي الأساسي، يؤدّي القطاع دوراً بالغ الأهمية في صناعة الأغذية الزراعية في البلد، ما يُسهِم بنسبة 5 في المئة إضافية في إجمالي الناتج المحلّي، فضلاً عن توفير فُرَص عمل لشريحة إضافية من اليد العاملة بنسبة 8 في المئة، ما يجعلُها مصدراً رئيسياً للوظائف في الاقتصاد. وقد حدّدت منظّمة الأغذية والزراعة (الفاو) قطاع الأغذية الزراعية باعتباره مصدراً أساسياً وسريع النموّ لفُرَص العمل في لبنان.

بحسب دراسات تقديرية سابقة تعود إلى عام 2018، تبرز أكثر فأكثر أهمية قطاع الأغذية الزراعية. فقد شكَّلَ نسبةً ملحوظة تبلغ 38% من الناتج الصناعي للبلد واستأثرَ بـ 2.9% من إجمالي الناتج المحلّي، ما عزَّزَ مكانته باعتباره أكبر مُساهِم في ناتج القطاع الصناعي. وقُدِّرَ حجم صناعة الأغذية الزراعية بـ 1.6 مليار دولار كما أظهرَ نمواً كبيراً حيث سَجَّلَ معدّل نموّ سنوي مركّب يبلغ 9.5% بين عامَيْ 2010 و2018.

مشكلات حديثة

شهدَت الزراعة اللبنانية ازدهاراً ملحوظاً في السابق، لكنَّها كانت تُعاني من مشاكل مثل غياب الكفاءة في استخدام المياه، وسوء حالة البنية التحتية، ومحدودية الوصول إلى التمويل. وجاءَ الانكماش الاقتصادي الحادّ ليزيدَ من هذه المشاكل، حيث أدّى عدم الاستقرار السياسي إلى عرقلة الإنتاج الزراعي كما تَسبَّبَ بالكثير من الهدر والخسائر الاقتصادية للمُنتِجين والمستهلكين في سلسلة القيمة. وأثَّرَ إغلاق الحدود بسبب جائحة كورونا والوضع السياسي على الصادرات بشكل كبير، ما قلَّصَ إيرادات المزارعين.

مشكلات عميقة الجذور

بشكل عام، يتّصف قطاع الزراعة في لبنان بما يلي:

(1) ارتفاع تكاليف الإنتاج بسبب ارتفاع أسعار عوامل الإنتاج الزراعي (بما في ذلك التكاليف الثابتة وإيجار الأراضي الزراعية)،

(2) الحيازات الصغيرة التي لا تستطيع الاستفادة من وفورات الإنتاج الكبير. وبدءاً بارتفاع تكاليف الإنتاج التي تحدّ من القدرة التنافسية وصولاً إلى الاعتماد المفرط على اليد العاملة الموسمية ذات المهارات المتدنّية. يُواجِه القطاع الزراعي العديد من التحدّيات:

الضغوط المالية

نظراً لصعوبة الحصول على القروض وتردُّد القطاع المصرفي في دعم الزراعة، تبقى قدرات المزارعين محدودة على صعيد الاستثمار والابتكار. لطالما واجهَ المزارعون اللبنانيون تحدّياتٍ تمنع حصولهم على القروض. قبل الأزمة، كانَ القطاع المصرفي مصدرَ الدعم المالي الوحيد بالنسبة لهم. ولكنَّ المصارف في لبنان تَعتبِر أنَّ الزراعة هي قطاعٌ ينطوي على الكثير من التقلُّبات وليست لها عوائد وأسواق ثابتة، ولهذا السبب تتردّد في دعم المزارعين. وكانَ برنامج «كفالات» هو مصدر الإقراض الوحيد، لكنَّه توقَّفَ عن العمل أيضاً في ظلّ الأزمة.

التحدّيات المتعلّقة باليد العاملة

يعتمد جزء كبير من القوى العاملة الزراعية في لبنان على العمل الموسمي، وخصوصاً اليد العاملة السورية. وأدّى هذا الاعتماد الكبير على اليد العاملة الأجنبية، التي تكون غالباً غير ماهرة، إلى جانب ارتفاع معدّل نزوح الشباب اللبناني من قراهم، إلى منع اعتماد التقنيات الحديثة وأفضل الممارسات الزراعية التي يمكن أن تُقدِّمها القوى العاملة الماهرة.

العوائق في سلسلة التوريد

تترافق سلسلة التوريد المعقّدة مع مجموعة من التحدّيات الخاصّة بها. ويؤدّي التفاوت بين العرض والطلب، والديناميات التجارية الاستغلالية في كثيرٍ من الأحيان، إلى زيادة الضغط على القطاع الزراعي. وبسبب الافتقار إلى القدرة على التفاوض والشفافية وعدم الالتزام بمعايير الجودة، تبرز عوائق عدّة تَحول دون التسويق الفعّال للمنتجات وتحدّ من إمكانات التصدير. وتُعزى هذه الثغرات إلى انعدام الثقة بين المنتجين والوسطاء، وانقطاع سلسلة التوريد، ما يؤدّي إلى مشاكل عديدة في الجودة والتسويق.

البنية التحتية

يؤدّي تراجُع الإنتاجية، ونقص الطرق الزراعية والمرافق الأساسية، وتدهور حالة شبكات الريّ، إلى إعاقة النموّ. ويطرح وضع البنية التحتية الزراعية تحدّياً آخر. وفقاً للإحصاء الزراعي للعام 2010، لا يزال ما يُقارب 47000 هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة متروكاً من دون استخدام، وهو ما يُمثِّل أكثر من 20% من إجمالي الأراضي الصالحة للزراعة. وأدّى ارتفاع تكاليف صيانة الأراضي والنزوح الواسع النطاق من الأرياف، وخصوصاً في مناطق مثل جبل لبنان (36%)، إلى دفع عدد متزايد من المزارعين إلى هجر أراضيهم.

الثغرات السياسية والتنظيمية

أدّى نقص خدمات الإرشاد الزراعي، وعدم تطبيق البحوث الزراعية بشكلٍ كافٍ، والتدخّلات السياسية، إلى الحدّ من تقدُّم القطاع. ولم يكن المشهد السياسي المتقلّب داعماً للقطاع. ففي ظلّ العوامل الخارجية، وخصوصاً النزاع السوري، انقطعت الطرق البرّية في لبنان، ما أسفرَ عن تعطيل طرق التصدير التقليدية إلى الأسواق المُربِحة في الخليج والعراق.

تغير المناخ

إضافةً إلى ذلك، وبينما يُكافِح العالم ظاهرةَ تغيُّر المناخ، يُواجِه قطاع الزراعة في لبنان نصيبه من التحدّيات البيئية. فالاستخدام المفرط للمبيدات والأسمدة والهدر في استخدام الموارد المائية الثمينة يُهدِّدان التوازن البيئي وقدرة القطاع الزراعي في لبنان على الصمود.

فُرَص النموّ المُحتمَلة

بالرغم من كلّ هذه التحدّيات، لا يخلو المشهد الزراعي من بارقة الأمل. فمن خلال التقاليد الغنيّة في فنّ الطهي والمأكولات، والإمكانات الفريدة للسياحة الزراعية وتصنيع الأغذية الزراعية، يمكن للقطاع أن يُعوِّل على نقاط القوّة الكامنة فيه للتصدّي للصعوبات والعراقيل الحالية. كذلك، يمكن لآليات التعاون الدولي، والسياسات الحكومية التي تُركِّز على تعزيز البنية التحتية، والاتّفاقات التجارية المُثمرة، أن تدفع عجلة القطاع إلى الأمام نحو الازدهار.

من شأن بعض المحاصيل والمنتجات الزراعية، وتحديداً تلك التي تتمتّع بميزة نسبية وتُعرَض في الأسواق العالمية بأسعار تنافسية، أن تُمهِّد الطريق نحو المزيد من الاستثمار الزراعي. ويُشكِّل قطاع النبيذ الواعد خيرَ مثالٍ على هذه الإمكانات.

إعتماد الابتكار

بالإضافة إلى ذلك، يمكن للمزارعين اللبنانيين أن يعتمدوا الابتكار لتحصين أنفسهم بشكل أفضل في مواجهة الأزمة. فدمج الحلول المتطوّرة، بدءاً بالمكننة وتحليل البيانات ووصولاً إلى الممارسات الزراعية الذكية، ربّما يُبشِّر بحقبة جديدة من الازدهار الزراعي. ولا شكَّ في أنَّ التعاون مع مزوّدي التكنولوجيا والشركات الناشئة يَعِد بمستقبلٍ يُحقِّق فيه القطاع مستوى أعلى من الكفاءة ويُقلِّل من اعتماده على الواردات.

دور المنظمات

في ظلّ هذه المرحلة الدقيقة، تبرز أهمية دور المنظّمات الدولية والمحلّية. تُوفِّر بعض المبادرات، مثل برامج «النقد لقاء العمل»، فُرَص عمل مؤقّتة وقد تكون بمثابة طوق نجاة بالنسبة إلى الفئات الأكثر هشاشةً. ومن الممكن أن يؤدّي نهج التعاون بين الحكومة والمجتمع المدني والمجتمع الدولي إلى دفع عجلة التغيير.

إطلاق استراتيجية

بالنظر إلى الوضع الراهن لقطاع الزراعة، قد يكون من المفيد إطلاق استراتيجية متعدّدة الجوانب تشمل تعزيز الإنتاج، وتحسين أساليب التسويق، وإعادة الهيكلة التنظيمية، وإعداد السياسات الاستباقية. وينبغي توجيه الجهود نحو بناء القدرات، وتطوير البنية التحتية، وتوفير الدعم المالي، وتبنّي الممارسات الزراعية المتطوّرة. ويُعتبَر تطوير البنية التحتية، وتعزيز فعّالية الإجراءات اللوجستية وطرق التعبئة والتغليف، والترويج للصادرات، أموراً جوهرية في مجال التسويق.

الشراكة

ترتكز هذه الجهود التطويرية على نهج التعاون. ومن الممكن أن تؤدّي الشراكات بين القطاعَيْن العام والخاصّ، إلى جانب خبرات الجامعات والمؤسّسات البحثية، إلى تعزيز الرقابة على الجودة وتطبيق أفضل الممارسات. ويتعيّن على وزارة الزراعة أن تُفعِّل دورها بالتركيز على المبادرات التعاونية وسجلّات المزارعين، إلى جانب تعزيز التثقيف الزراعي بشكل عام.

جدول للإستيراد والتصدير

وعلى مستوى السياسات العامّة، لا بدّ من وضع جدول زمني شامل للاستيراد والتصدير، وفرض ضوابط صارمة على الواردات الأقلّ جودةً لتحديث أنظمة السوق. ويمكن أن يستعيد لبنان إرثه الزراعي من خلال تعزيز الزراعة التعاقدية وضمان حماية مصالح المُستثمِرين والمزارعين.

مصدرنداء الوطن
المادة السابقةالضاهر: تفاقم العجز يعني طبع ليرات
المقالة القادمةستالين ودجاجة المودعين