المصارف اللبنانية أساءت الأمانة وانتحرت

المصرف، بحسب أبسط تعريفاته، هو منشأة مالية، يلتقي فيها عرض النقود والطلب عليها. وهو مؤسسة هدفها قبول الودائع ومنح القروض والقيام ببعض الخدمات المرتبطة بهذه النشاطات. وعند الحديث عن الأزمة المالية الخانقة التي يُعانيها لبنان حالياً، من الضروري التمييز بين الأموال الخاصة التي تبخّرت والأموال العامة التي نُهبت وسُرِقت.

فودائع الناس في المصارف التجارية هي أموالٌ خاصة، كُلفت المصارف بإدارتها بطريقة ذكية وحكيمة مما يؤمّن مداخيل للمُودعين على شكل فوائد، ولأصحاب المصارف على شكل أرباح. هذا التكليف من المُودعين للمصارف قام على الأمانة والثقة، لذلك تُسمّى المصارف مؤسسات ائتمانية.

كانت المصارف تتشدّد في تسليف الأموال للمُقترضين وتُخضعهم لدراسات الجدوى الإقتصادية لكل مشروع، قبل الموافقة على طلباتهم. والمشكلة أنّ أصحاب المصارف استغلّوا هذه الثقة الغالية التي مُنحت لهم وقاموا بتوظيف أموال المُودعين في شركات ومؤسسات خاسرة أو إقراضها إلى دولة مُفلسة او معرّضة للإفلاس، مُقابل أرباحٍ وعوائد مُرتفعة ومُغرية حصلوا عليها وقاموا، وبغمضة عين، بإخراجها من لبنان إلى حسابات محمية في مصارف دولية.

وعندما جاء المُودعون إلى المصارف التي وثقوا بها لاسترداد بعض أموالهم وجدوا صناديقها فارغة وخاوية، وأصحابها يذرفون دموع التماسيح. هكذا تم تدمير القطاع المصرفي في لبنان على يد أصحاب المصارف وأعضاء مجالس إدارتها ومديريها الكبار، ومن الصعب جداً أن يستعيد هذا القطاع نشاطه بعد فقدان ثقة المُودعين به. لأنّ الخيانة التي تمت والإذلال الذي عاناه ويعانيه الناس على أبواب المصارف دَمّرا العلاقة بين الطرفين ومن الصعب جداً ترميمها.

أموالُ المُودعين الخاصة هذه تحوّلت في نسبة كبيرة منها إلى أموالٍ عامة بالتواطؤ المصلحي والمنفعي واللاأخلاقي بين مافيا المصارف والحاكم بأمره في مصرف لبنان ومختلف مكوّنات الطبقة السياسية التي توالت على الحكم منذ انتهاء الحرب الأهلية. هذه الأموال العامة (أموال المُودعين) لم تُستعمَل لإقامة البنى التحتية ولدعم القطاعات الإنتاجية ولخلق فرص عمل وزيادة نسبة النمو إلّا بشكل جزئي، وأُهدر القسم الأكبر منها على دعم ثبات سعر صرف الليرة وعلى المجالس والصناديق والهيئات والجمعيات (لزوجات المسؤولين) وعلى عجز الكهرباء المتراكم، وعلى مشاريع مَشبوهة تفوح منها روائح الفساد والنهب المُنظّم، وعلى نفقات كثيرة غير مجدية إقتصادياً أو إجتماعياً.

هكذا تبخّرت أموال المُودعين، أموال الناس، التي اكتنزوها لمواجهة أيام الضيق أو لمشاريع مستقبلية، في لعبة إجرامية أبطالها تماسيح المصارف الذين يذرفون الدموع، والحاكم بأمره في مصرف لبنان، وثعالب السياسة الذين يتنعمّون بجنى عمر الناس.

 

مصدرجريدة الجمهورية - الدكتور هيكل الراعي
المادة السابقةهل يعود سعر الصرف إلى «نقطة التوازن»؟
المقالة القادمةترشيد الدعم: «المركزي» آخر من يعلم؟