تحاول المصارف اللبنانية في زمن الانهيار المالي والاقتصادي، زيادة ايراداتها بطرق مختلفة، أبرزها التسويق لخدماتها المصرفية لدى أصحاب حسابات «الفريش»، مقابل اقتطاع رسوم هي الاعلى على صعيد المنطقة وبين الاعلى في العالم، بحسب ما يؤكد المختصون في القطاع المصرفي. بمعنى آخر تستمر المصارف بالتفكير بعقلية «البنكرجي» أي في انكار مسؤوليتها عن تبخر أموال المودعين، والترويج بأن ما حصل هو نتيجة ما جنته أيدي الدولة اللبنانية فقط، وتركز اهتمامها في زيادة أرباحها عبر تشجيع العملاء على فتح حسبات جديدة بالـ»فريش»، وبتقديم خدمات مصرفية عبرها متناسية الحسابات «القديمة» واعتبارها كأنها لم تكن أو في أحسن الاحوال حبراً على ورق.
نوعان من الخدمات
تجدر الاشارة الى أن الخدمات المصرفية الحالية لحسابات «الفريش» نوعان: debit card و credit card (مقابل ضمانة يضعها العميل بالدولار الفريش) وinternet card بقيمة 200 دولار مقابل رسوم شهرية (3 دولارات) وسنوية (10 دولارات). لكن السؤال الاهم هل يجوز قانوناً التمييز بين حسابات قديمة وأخرى «فريش» لاستعمالها في الخدمات المصرفية، وهل تنطلي هذه المحاولات على اللبنانيين، أم ان اللجوء اليها يأتي من باب «مرغم أخاك لا بطل»؟
هرطقة في التفريق
توضح عضو رابطة المودعين المحامية دينا أبو الزور لـ»نداء الوطن» أن «المصارف تعمد الى فتح حسابات «فريش» وتقديم خدمات مصرفية عبرها شرط تزويد المصرف بمستندات تظهر مصدر الاموال، علماً أنه لا يمكن قانونياً التفرقة بين الحسابات لتقديم الخدمات المصرفية، ويعتبر ذلك هرطقة غير موجودة في أي نظام مصرفي في العالم»، مؤكدة أن «الحسابات القديمة هي حسابات موجودة والاموال فيها لم تتغير لا من الناحية المادية ولا القانونية، لكنها أصبحت دفترية للأسف بسبب زعم المصارف بأنها لا تملك السيولة الكافية لردها الى المودعين، علماً أن التعميم 158 ينص على أن تدفع المصارف للمودعين من خلاله 300 دولار شهرياً».
تناقض في التعاطي
تعتبر أبو الزور أن «السؤال الذي يجب أن يطرح على المصارف هو كيف يتم تأمين هذه السيولة على المبالغ المحددة، وفي الوقت نفسه يجبرون الناس على وضع مبلغ معين في حساب خاص (50 ألف دولار) للاستفادة من هذا التعميم؟»، جازمة أن «هناك تناقضاً في التعاطي مع الحسابات، لأن الدولة ومجلس النواب يسمحون بذلك ويمنعون اقرار قانون الكابيتال كونترول، وهذا أدى الى عدم مساواة في تصنيف الحسابات (قديمة و فريش) وعدم تنظيم عمليات سحب الاموال الشهرية بالدولار».
حاولوا… وفشلوا
وتؤكد أن «التفريق بين الحسابات جديدة وقديمة غير موجودة سواء في القانون اللبناني أو قانون النقد والتسليف، وقد حاولوا تكريسها في الموازنات التي صدرت واقتراحات ومشاريع القوانين التي درست في مجلس النواب (اعادة هيكلة المصارف والكابيتال كونترول) ولكن لم ينجحوا بذلك»، مستدركة أنه «عملياً وواقعياً هذه التفرقة موجودة لأن المودعين لا يمكنهم الاستفادة من الحسابات القديمة، والحسابات الجديدة تمارس عليها ضوابط من المصرف ويتقاضى مقابلها عمولات كبيرة، ويحدد سقفاً للسحوبات اسبوعياً وشهرياً، وهي حسابات ليست حرة ومطلقة يمكن للمودع استعمالها ساعة يشاء».
وتختم: «المودعون مضطرون ولا يملكون خيارات، هم من يلجأون الى الخدمات المصرفية عبر الحسابات الفريش ويحاولون ايجاد البدائل دائما كاستعمال الكاش، أما لجنة الرقابة على المصارف الحالية فهي كيان غير موجود، ولو قام اعضاؤها الحاليون بدورهم الاساسي لما كنا وصلنا الى الوضع الذي نحن فيه».
أكبر ظلم
في الميزان الاقتصادي يؤكد الخبير الاقتصادي صلاح عسيران لـ»نداء الوطن» أن «من غير المنصف التمييز بين حسابات جديدة (فريش) وقديمة، ووضع هذه الاخيرة في متاهة النسيان فهذا اكبر ظلم يلحق بالمودع اللبناني والاجنبي»، جازماً أنه «من دون اقرار قانون اعادة هيكلة المصارف وباقي القوانين الاصلاحية التي ترعى النهوض من الكارثة التي نغرق فيها، سيبقى التعامل مع الحسابات القديمة على حاله أي عبر التعميم 158».
رسوم مرتفعة جداً
يضيف: «حالياً تحاول المصارف زيادة ايراداتها بـ»الفريش» عبر خدمات مصرفية تمكّن زبائنها في حال كانوا في حالة سفر على تسديد مدفوعات خارج لبنان عبر credit card، لكن ما نلاحظه أن الرسوم التي تفرض على اصدار الكارت نفسه وتلك التي تجبى مقابل كل سحب، أو عبر تقسيط الدفعات التي تصرف من credit card، هي رسوم مرتفعة جداً. فمع غياب الرقابة الفعلية والمتابعة والقوانين الاصلاحية سيستمر تمادي المصارف على حقوق المودعين ومستعملي الخدمات المصرفية»، مشدداً على أن «مراقبة سلوك المصارف مهمة منوطة بلجنة الرقابة على المصارف، ونتمنى أن تقوم بدورها بشكل جدي اكثر عبر وضع حدود كي تكون الرسوم الذي تجبى على هذه الخدمات، تتناسب مع الرسوم التي يتم تقاضيها في المصارف حول العالم سواء أكانت العملة بالدولار أو اي عملة صعبة اخرى، لأن المصارف تتقاضى رسوماً أكبر بكثير من كلفة الخدمة».
لا يحققون الهدف
يرى عسيران أن «المقاربة التي تحاول المصارف إرساءها عبر خدمات credit card بحسابات الفريش لم تؤت ثمارها كما تبغي، لسبب بسيط أن العميل الذي يمكنه استعمال حساباته المصرفية والخدمات المصرفية في المصارف الاجنبية لا يلجأ الى خدمات المصارف اللبنانية، بسبب ارتفاع الكلفة والرسوم في المصارف اللبنانية مقارنة مع المصارف الاجنبية»، مستدركاً أن «العملاء الاقل قدرة مادية ليسوا من الفئات المستهدفة من المصارف، وبالتالي هناك حاجة لاعادة بناء الثقة بين العملاء والمصارف بشكل متواتر وليس عبر أسعار ورسوم فاحشة».
إنها حاجة للعملاء
من وجهة نظر مصرفية، يشرح رئيس مركز الابحاث في بنك بيبلوس والخبير الاقتصادي نسيب غبريل لـ»نداء الوطن» أن «الحسابات الفريش هي حاجة لتوطين الرواتب سواء أكانت بالدولار أو جزء منها بالدولار، وهي حاجة للشركات والاستيراد والتصدير وللمؤسسات التي لا تبغي الربح وغير الحكومية، وعدد تلك الحسابات في المصارف تقريباً بين 200 و220 ألف حساب ومجموع ما فيها مليار و800 مليون دولار تقريباً». لافتاً الى أن «مصرف لبنان اصدر في نيسان الماضي تعميماً يسمح بموجبه أن تكون هناك مقاصة للحسابات الفريش، من اجل اصدار شيكات لأن هناك حاجة وضرورة لهذا الموضوع خصوصاً أننا بتنا في اقتصاد كاش ومدولر».
يشدد غبريل على أن «بطاقات الائتمان لحسابات الفريش تساعد الافراد الذين يريدون الانتقال بين لبنان والخارج، وهناك خدمة تحويل الاموال للذين يريدون شراء الاسهم والعقارات أو بهدف الدراسة في الخارج». مؤكداً أنه «لا غنى عن قطاع مصرفي مهما كانت الازمة كبيرة، وهناك معاملات خارج لبنان تحتّم وجود هذه الخدمات المصرفية والحسابات الفريش».
أصل المشكلة
ويضيف: أزمة الثقة بين المودع والمصارف هي بسبب سوء استخدام السلطة السياسية وسوء ادارة القطاع العام وعدم وجود حوكمة وادارة رشيدة له، وهذا ما أدى الى فقدان الثقة والى الازمة في تشرين الاول 2019 وانسحبت على القطاع المصرفي وليست محصورة به».
ويؤكد أن «استعادة الثقة لا تعود فقط من خلال اعادة هيكلة القطاع المصرفي، بل ايضاً بتطبيق الدستور والالتزام بالمهل الدستورية واحترام فصل السلطات ودعم استقلالية القضاء وتطبيق القوانين، والامر ليس اجراء تقنياً بل له علاقة بالحوكمة والادارة الرشيدة والشفافية».