المنافسة الإقليميّة شرسة: لمن سيبيع لبنان غازه؟

مع حاجة أوروبا لزيادة إمداداتها من غاز شرق المتوسّط، تسعى إسرائيل للاستحواذ على أكبر قدر ممكن من صفقات تصدير الغاز نحو أوروبا. في المقابل، تبدو مصر مصرّة على تعزيز مكانتها كمركز لإنتاج وتصدير مصادر الطاقة، سواء تلك المستخرجة من حقولها الخاصّة، أو تلك التي يتم اكتشافها في حقول الدول المجاورة. سوريا منهمكة بالعقوبات التي تطوّق قطاع الطاقة لديها، فيما تبحث تركيا عن دور مشابه، أو بالأحرى منافس ومزاحم، للدور المصري. إلا أنّ المسعى التركي يبدو محدودًا بالكثير من الاعتبارات، وأبرزها اندفاع قبرص واليونان للتعاون مع المنافس المصري، لحسابات كثيرة يتصل أغلبها بمشاكل أردوغان الحدوديّة مع الدولتين.

أسئلة ملحّة لم يتعامل معها لبنان بعد

في كل هذا المشهد، يبقى سؤال أساسي لم يجاوب اللبنانيين عليه: لمن سيباع الغاز اللبناني بعد استكشافه؟ أو بعبارة أصح، في حال تم استكشافه؟ قد يعتقد البعض أنّ ثمّة استعجالاً غير مبرّر في طرح السؤال، على قاعدة “ليجي الصبي منصلّي على النبي”. إلا أنّ جميع العارفين بقواعد هذا السوق يدركون أن شركات البترول لا تتبكّد مغامرات استكشافيّة مكلفة، ومن ثم مغامرات استخراجيّة أكثر كلفة، لتقف بعدها حائرةً في كيفيّة بيع الغاز. مع الإشارة إلى أنّ بيع الغاز بالتحديد، يحتاج إلى إنفاق استثماري على البنية التحتيّة، لمد الأنابيب أو تحضير محطات التسييل والشحن. وهذه الخيارات، تتصل بكميّات الغاز المستكشفة من جهة، لكنها تتصل أيضًا بخيارات الجدوى السياسيّة والاقتصاديّة للبلد المعني.

لكل هذه الأسباب، من المستبعد أن تنطلق توتال وشركاؤها مجددًا في أعمال التنقيب ومن بعدها الاستخراج، قبل الإجابة على كل هذه الأسئلة وبشكل واضح. وعليه، إذا لم يقدّم لبنان هذه الأجوبة بنفسه، وبناءً على مصالحه الاقتصاديّة والسياسيّة، فستعمد الشركات نفسها إلى تقديم هذه الإجابات، ووفقًا لحسابات الجدوى الاقتصاديّة المتعلّقة بنشاطها، وسيكون على لبنان المضي قدمًا بخيارات الشركات تحت طائلة فرملة أنشطته البتروليّة. وهذا تحديدًا ما يفترض أن يدفع الدولة إلى فتح هذا النقاش على مصراعيه، والتفاوض مع جميع الشركاء المحتملين، قبل فوات الأوان.

الدور المصري كمركز تصدير للغاز

قوّة مصر الأساسيّة، كمركز لتصدير الغاز في المنطقة، تنطلق من امتلاكها محطتي تسييل في دمياط وإدكو، ما يسمح لها باستيعاب غاز الدول المجاورة، وتحويله إلى الحالة السائلة التي تسمح بشحنه عبر البواخر إلى الأسواق العالميّة. وهذا تحديدًا ما دفع الاتحاد الأوروبي لتوقيع اتفاقيّة ثلاثيّة مع مصر وإسرائيل في شهر حزيران الماضي، لضخ الغاز الإسرائيلي باتجاه المحطتين عبر الأنابيب القائمة أساسًا بين إسرائيل ومصر، ومن ثم تسييل الغاز وشحنه إلى أوروبا، ما سيساهم بملء الفجوة الناتجة عن تناقص إمدادات الغاز الروسي باتجاه أوروبا. ولهذا السبب أيضًا، لم تتمكن إسرائيل من توقيع اتفاقيّة لشحن غاز حقل “ليفيتان” باتجاه السوق الألماني منذ أيام، إلا وفقًا لترتيبات تنص على ضخ هذا الغاز باتجاه مصر لتسييله، ومن ثم تصديره بالحالة السائلة إلى المرافئ الألمانيّة.

باختصار، الجميع يعتمد على هذا الدور المصري، طالما أن تشييد محطات التسييل المستقلّة لكل دولة سيحتاج إلى إنتاج ضخم من الغاز لتأمين الجدوى الاقتصاديّة، فيما سيحتاج تشييد الأنابيب باتجاه السوق الأوروبيّة إنتاجاً أضخم. وهذا مثلًا ما دفع قبرص مثلًا إلى البدء بإنشاء خط الأنابيب الذي يربط حقل أفروديت للغاز الطبيعي القبرصي بمصر، بهدف تأمين القدرة على تسييل الغاز وتصديره إلى أوروبا خلال سنتين.

الاهتمام المصري بحقول لبنان

الاهتمام المصري بحقول الغاز اللبنانيّة، وما يمكن أن تفتحه من آفاق للتعاون في مجال تسييل الغاز وتصديره، بدا واضحًا من خلال سعي مصر لضم لبنان وسوريا إلى منتدى غاز شرق المتوسّط. مع الإشارة إلى أنّ هذا المنتدى يمثّل منظمة حكومية دولية مقرها القاهرة، تضم قبرص ومصر واليونان وإسرائيل وإيطاليا والأردن وفرنسا وفلسطين، بالإضافة إلى الولايات المتحدة بصفة مراقب، بهدف تنسيق مشاريع الغاز الإقليميّة، وخصوصًا تلك التي تُعنى بإنتاجه ونقله. وفي الوقت الذي تبرز فيه إشكاليّة وجود إسرائيل على هذه الطاولة ، تعتبر مصر أنّ عدم اعتراف لبنان بإسرائيل لا يفترض أن يحول دون انتسابه للمنتدى، كونه إطاراً للتنسيق الفنّي في قضايا الغاز، وليس منظّمة أو تحالفاً سياسياً دولياً.

لكن وبمعزل عن المنتدى واحتمالات الانتساب إليه، يبقى من الأكيد أن التعاون المباشر مع مصر، والتكتّل الإقليمي الذي تقوده اليوم على مستوى أسواق الطاقة، يمثّل بالنسبة للبنان خياراً جدّياً، وخصوصًا لجهة إمكانيّة تسييل الغاز اللبناني في المحطات المصريّة قبل تصديره. مع الإشارة إلى أنّ خيارات استفادة السوق الداخلي من الغاز تبقى محدودة، لجهة غياب البنية التحتيّة التي تسمح بتوسيع نطاق ضخّه إلى جميع المناطق اللبنانيّة، ومن ثم استهلاكه. وتشييد هذا النوع من البنية التحتيّة، في ظل هذه الظروف الاقتصاديّة، قد يحوّل الاستثمار في هذا القطاع إلى مصدر لاستنزاف السيولة، بدل أن يكون مصدراً للتدفقات النقديّة من الخارج. أمّا إنشاء محطات تسييل في لبنان، فسيبقى متعذّرًا ما لم يتم إيجاد كميّات تجاريّة ضخمة من الغاز، لتأمين جدوى مشاريع مكلفة بهذا الحجم.

في جميع الحالات، تتركّز سيناريوهات التعاون مع مصر على إمكانيّة ضخ الغاز باتجاه الأنبوب التي يربط قبرص بمحطات التسييل المصريّة، بهدف تسييل الغاز وبيعه في صفقات مباشرة مع أوروبا، أو بيع الغاز لتوتال لتتولى البحث مع الجانب المصري في كيفيّة ضخ الغاز باتجاه محطاته ومن ثم شحنه إلى السوق الأوروبيّة. أمّا التعاون مع تركيا، فيبدو أنّه سيكون أكثر السيناريوهات تعقيدًا، في ظل الإشكاليّات التي تحيط بعلاقة أردوغان بجميع الدول المنطقة، والتي عزلته حتّى اللحظة عن جميع تحالفات الطاقة الوازنة الإقليميّة، باستثناء رهانه الهش على بوتين، الذي يحتاج أصلًا إلى ما يستطيع الرهان عليه.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةأربعة تطبيقات خطيرة يجب حذفها من هواتفكم
المقالة القادمةشحنة فيول متوقَّعة: الكهرباء تنتظر الحسم ودولارات رياض سلامة