تزايد التوتر بين واشنطن وبكين الذي يتحول تدريجياً إلى حرب باردة لعزل الصين من الفضاء التجاري العالمي في حال فوز الرئيس دونالد ترامب بدورة رئاسية ثانية، يضع الدول العربية، وتحديداً الخليجية منها، أمام خيارات صعبة في المستقبل. وربما تتطلب منها المفاضلة بين مصالحها التجارية مع التنين الصيني وبين علاقات الحماية والنفوذ السياسي مع واشنطن.
وبينما تتزايد مصالح التبادل التجاري وعلاقات الاستثمار وتجارة النفط ومشتقاته مع الصين، تتراجع مصالحها التجارية مع الولايات المتحدة صاحبة النفوذ الجيوسياسي في الفضاء الخليجي والعربي.
ووفق الزميل السابق بالمعهد الملكي للخدمات الدفاعية والخبير البريطاني، وصاحب شركة “استراتيجيك انتيليجنس”، باراك سينر، في تحليل بهذا الشأن، فإن تراجع أهمية منطقة الخليج في السياسة الخارجية الأميركية لصالح آسيا ربما لن يستمر طويلاً وسط تزايد النفوذ الصيني الروسي في المنطقة، خاصة أن تحالف موسكو وبكين يتجه لحماية مصالحه التجارية والنفطية في مضيق هرمز والبحر الأحمر عبر المناورات العسكرية المباشرة، إذ تملك الصين قاعدة عسكرية في جيبوتي.
كذلك أجرت الصين، لأول مرة، مناورة عسكرية بحرية ولمدة ثلاثة أيام مع الأسطول الحربي الروسي والإيراني في ديسمبر/ كانون الأول الماضي لحماية السفن النفطية العابرة إلى آسيا.
ولدى الصين مصالح استثمارية ضخمة في النفط والغاز الطبيعي في كل من إيران والعراق، كما لديها استثمارات في العراق، وبالتالي فإن الصين ربما تتجه لحماية مصالح إمدادات الطاقة من إيران والعراق وباقي دول الخليج عسكرياً، في حال فوز الرئيس ترامب وتبلور استراتيجية عزل الصين عن الفضاء التجاري العالمي، إذ إن واشنطن ربما ستضيف سلاح حظر الطاقة، إضافة إلى الأسلحة المالية والنقدية.
ومعلوم أن الولايات المتحدة تستخدم أسلحتها المالية ونفوذ الدولار في محاصرة الصين وتقنياتها وشركاتها منذ وصول الرئيس ترامب للحكم في بداية عام 2017.
ولا يستبعد محللون بعد انقضاء الظروف الاستثنائية التي تخلقها في الوقت الراهن جائحة كورونا والتي ضربت الطلب العالمي على النفط ومشتقاته وعودة الطلب العالمي على الطاقة إلى وضعه الطبيعي، أن تلجأ الولايات المتحدة لسلاح الطاقة.
والنفط كان من أهم الأسلحة التي استخدمت في الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، وقاد إلى سقوط المعسكر الشرقي في نهاية عقد الثمانينيات.
على صعيد العلاقات التجارية، تظهر البيانات الصادرة عن وزارة التجارة الصينية أن حجم التجارة بين الصين والدول العربية وصل إلى 266.4 مليار دولار في العام الماضي 2019، بزيادة 9% على أساس سنوي، إذ بلغت الواردات الصينية من الدول العربية 146 مليار دولار في العام الماضي 2019، بزيادة 4.8% على أساس سنوي، وفي الفترة نفسها، وصلت الصادرات الصينية إلى الدول العربية إلى 120.4 مليار دولار، بزيادة 14.7% على أساس سنوي.
وترتبط معظم الدول العربية بمبادرة “الحزام والطريق” التي تحاربها واشنطن وتسعى لضربها في إطار الصراع الاستراتيجي الدائر على النفوذ العالمي.
وتعقد الصين قمة سنوية للأعمال التجارية المشتركة وعلاقات التجارة المتنامية مع دول العالم العربي، وعلى رأسها الدول الخليجية. وفي سبتمبر/ أيلول الماضي، نُظمت الدورة الثالثة لقمة الأعمال الصينية العربية في مدينة يينشوان الصينية، بهدف تعزيز العلاقات التجارية بين الدول العربية والصين.
وكشفت بكين في نهاية القمة أن حجم التبادل التجاري بين الصين والدول العربية زاد بحوالي 28 في المائة في عام 2018 مقارنة بعام 2017، ليصل إلى 224.3 مليار دولار. كذلك زاد حجم عقود المقاولات الصينية في الدول العربية بنسبة تسعة في المائة، لتصل إلى 35.6 مليار دولار، هذا بخلاف الاستثمارات الصينية المباشرة في الدول العربية، والتي تبلغ قيمتها 1.2 مليار دولار.
وفي مقابل ذلك، فإن حجم التجارة مع الولايات المتحدة يتراجع، عدا الدفاعي، خاصة مع دول الخليج. وحسب بيانات المركز الإحصائي لدول الخليج، فقد بلغ 85.9 مليار دولار في عام 2018، ولا يتجاوز حجم تجارة السلع والخدمات مع الولايات المتحدة نسبة 5.8% من إجمالي حجم تجارتها الخارجية.
وبالتالي يلاحظ التناقض الواضح بين المصالح التجارية لدول الخليج المتنامية مع الصين وتراجعها مع الولايات المتحدة التي تعتمد عليها في الحماية وتقع ضمن نفوذها الجيوسياسي.
ولكن على الرغم من ذلك، لا يزال النفط ومشتقاته يجعلان من المنطقة العربية مركز ثقل يدور حوله الصراع على أمن الطاقة العالمي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتكتسي أهمية متزايدة في الأمن القومي الأميركي وهيمنتها على النظام العالمي.
وحتى الآن لم ينعكس الصراع بين بكين وواشنطن على تشكيل النظام العالمي الجديد على المنطقة العربية بشكل مباشر، على الرغم من تداعياته على المحيط الغربي في أوروبا وآسيا، الذي باتت واشنطن تخير بعض دوله بين التخلي عن علاقاتها التجارية والتقنية مع التنين الصيني أو خسارة مصالحها التجارية مع واشنطن.
لكن هذا التوازن المرن الذي تتمتع به الدول العربية، وتحديداً دول الخليج، بين المحافظة على علاقاتها التجارية مع الصين، وبين التمتع بالحماية الأميركية ربما لن يستمر طويلاً في حال فوز الرئيس دونالد ترامب بدورة رئاسية ثانية، لأنه ببساطة يعد العدة لبلورة تحالف دولي لمحاصرة التنين وعزله عن الفضاء التجاري العالمي، إذ إن كلاً من الصين والدول الغربية ستكون بحاجة ماسة للطاقة وتحديداً النفط لتلبية احتياجاتها منه حتى تتمكن من النمو بعد القضاء على جائحة كورونا التي تخلق حالة استثنائية.
وفي هذه الحال ستكون المنطقة العربية، وتحديداً منطقة الخليج، في قلب الصراع على أمن الطاقة العالمي مجدداً، وربما ستجد نفسها بين خيارات مرة، تفاضل فيها بين التحالف مع واشنطن أو مع الصين، وبالتالي تفقد تدريجياً التوازن المرن الذي يكفل لها في الوقت الراهن الحفاظ على مصالحها التجارية مع الصين كأكبر زبون لشراء نفطها وبين الولايات المتحدة التي توفر لها الأمن الدفاعي وتتمتع بالنفوذ الجيوسياسي على الممرات المائية التي يتدفق من خلالها النفط الخليجي لأسواق العالم.
وبينما باتت الولايات المتحدة ومنذ ثورة النفط الصخري في عهد الرئيس السابق باراك أوباما شبه مكتفية نفطياً من الخامات ولا تستورد سوى قليل جداً من النفط العربي، باتت الصين أكبر مستورد للنفط العربي، إذ بلغت وارداتها خلال شهر يونيو/ حزيران الماضي أكثر من 14 مليون برميل يومياً. وربما ستزداد واردات الصين النفطية مع تمكن العالم من القضاء على جائحة كورونا الحالية التي ضربت الطلب العالمي على الطاقة، وبالتالي ربما ستعود لتكثيف وارداتها من النفط العربي والإيراني.
ويرى محللون أن ثورة النفط الصخري لا تعني أن أميركا ستتخلى عن النفط العربي وإن قل حجم استيرادها منه، إذ إنه جزء لا يتجزأ من المكونات التي تبني مكانة “الدولة العظمى”، من حيث إنه يوفر لها وسيلة للضغط على دول العالم وتلبية احتياجات حلفائها في آسيا وأوروبا، وذلك إضافة إلى أنه غطاء مهم للعملة الأميركية، من حيث إن النفط يباع بالدولار، وبالتالي يرفع الطلب على الدولار في جميع الدول المستهلكة للطاقة ويمكن الولايات المتحدة من توسيع ميزانية الدفاع والدين السيادي.
ويلاحظ أن العالم يحتاج للدولار في شراء مائة مليون برميل يومياً، حسب تقديرات وكالة الطاقة الدولية لحجم استهلاك العالم من الذهب الأسود قبل جائحة كورونا الحالية.