انتفاضة الصناديق: المواجهة الحتميّة

لا يخفى على المطّلعين على أزمة لبنان العميقة، أنّ اللاعبين الفعليّين على الساحتين السياسيّة والاقتصاديّة في البلاد ينقسمون أوّلاً: إلى الحلقة الطائفيّة، أي أمراء الحرب والطوائف (والجهات الإقليميّة والدوليّة الراعية لهم)، وثانياً: إلى الحلقة الماليّة، أي أصحاب المصارف وحاكميّة المصرف المركزي.

في بداية الأزمة الماليّة – الاقتصاديّة في عام 2019 – والتي أخذت معالمها تتّضح منذ سنة 2016 في أعقاب هندسات مصرف لبنان الماليّة – بدأت آليات الحلقة السياسيّة تتعطّل، وكذلك قنوات التوزيع المُعتمدة من قِبَلها (مثل شراء الولاءات من خلال التوظيف العام والتنفيعات السياسيّة، أي جرّاء ضخّ الأموال الآتية من الخارج داخلياً عبر الدين العام والديون الخاصّة). وقد تعطّلت تماماً عشيّة إعلان حكومة حسان دياب عن تخلّف لبنان عن سداد ديون «اليوروبوندز» في آذار 2020.

وفي المقابل، شهدت الحلقة الماليّة توسّعاً في دورها وفي تأثيرها. فعلاوةً على مواصلتها حجز أموال المودِعين، وفرض شروط قاسية لسحب العملات الصعبة من حساباتهم من خلال التعميمات المُغرضة والإجراءات الاستنسابيّة، فإنها تمكّنت من نسف برنامج حكومة دياب الذي تضمّن توزيعاً لخسائر إجمالية بقيمة 83 مليار دولار، كان من المُقرّر أن يتحمّلها الفاعلون الاقتصاديون، أي «مصرف لبنان» والمصارف التجارية ودافعو الضرائب. وقد كان لافتاً إذعان لجنة تقصّي الحقائق في مجلس النواب لإرادة أصحاب المصارف، فخلصت اللجنة المذكورة في حزيران 2020 إلى تقليص حجم الخسائر الإجمالية لمصرف لبنان والمصارف إلى أقلّ من الثّلث، تمهيداً للتفاوض مع الدائنين الخارجيين.

انطلاقاً من هذا الواقع، لا بدّ من إطلاق نقاش واسع حول أهميّة العمل السياسي الرامي إلى مواجهة الحلقة الماليّة التي يُشكّل كارتيل أصحاب المصارف أبرز لاعبيها. ولهذه المواجهة هدفان أسياسيان. الأوّل، هو حشد المواطنين والمواطنات – ولا سيّما أولئك المنضوون في نقابات المهن الحرّة والمعلّمين – للدفاع عن حقوقهم الاجتماعية ومدّخراتهم من خلال منع أصحاب المصارف من تبديد الادخارات المجتمعيّة، وخصوصاً صناديق التعاضد. ذلك أنّ هذه الصناديق تمثّل مفصلاً حرجاً للحلقة الماليّة، كونها تعمل في أطر منظّمة تضمّ مئات ألوف العائلات التي تمّ الاستيلاء على مدّخراتها من قبل أصحاب المصارف أنفسهم. أما الهدف الثاني فهو الإسهام على المدى المتوسّط في «إعادة هيكلة» النظام المصرفي على نحوٍ يتلاءم والوظائف التي يحتاج إليها المجتمع، وذلك قبل انتهاء أيّ تفاوض مع الدائنين، سواء حملة سندات اليوروبوندز أو «صندوق النقد الدولي» (بعدما أعلنت وزارة الماليّة اللبنانيّة أنّها استأنفت تواصلها مع الصندوق من أجل التوصّل إلى اتّفاق من شأنه أن يُطلق العنان للدعم المالي من المجتمع الدولي).

وفقاً للمرسوم الاشتراعي الرقم 35 للعام 1977 الذي يُحدّد قانونيّة صناديق التعاضد وآليات تأسيسها وتنظيم العمل فيها، فإنّ صناديق التعاضد هي مؤسّسات اجتماعية لا تبغي الربح. وهي تشكّل نوعاً من الرابط الاجتماعي بين أعضائها، فهي تضمّ أشخاصاً تجمع بينهم الرغبة في التضامن والمساعدة المتبادلة، وذلك بواسطة اشتراكات إلزامية يدفعونها مقابل تلقّيهم خدمات معيّنة. ومن الأغراض التي تسعى هذه الصناديق لتحقيقها تأمين مَعاش تقاعدي للمشتركين، بالإضافة إلى تعويضهم في حال حدوث أيّ من الأخطار التي تصيبهم أو تصيب عائلاتهم سواء في شخصهم أو في ملكيّتهم أو في استثماراتهم، بما في ذلك الحوادث الجسديّة، والمرض، وحتى في الوفاة. وتُعنى هذه الصناديق أيضاً بمساعدة الأعضاء في حالات الزواج والولادة ونهاية الخدمة، بالإضافة إلى تقديم المساعدات والمِنَح والقروض لهم ولأولادهم لغاية التعليم.

واللافت هو أنّ هذه الصناديق هي موجّهة بالدرجة الأولى إلى الطبقة الوسطى وما دونها. وبذلك، فهي تُشكّل شبكة حماية اجتماعيّة ليس لبضعة أفراد منتسبين فحسب، بل لمجتمع برمّته، لكونها مؤتمنةً على عشرات آلاف الحسابات، وتعمل لتأمين مصلحة أعضائها وعائلاتهم، والذين يُقدّر عددهم بمئات الآلاف.

هنا، لا بدّ من الإشارة إلى التعميم 158 الصادر عن مصرف لبنان بتاريخ 8 حزيران 2021 (والصّالح لغاية 31 تشرين الأول 2021)، والذي يجيز لأصحاب الودائع بالدولار سحب 400 دولار شهرياً، وبموازاتها 400 دولار أخرى بالليرة اللبنانية على سعر 12 ألف ليرة للدولار الواحد. فبمعزل عن أنّ هذا التعميم ينطوي على «هيركات» يبلغ نحو 80% من قيمة الوديعة، إلّا أن أحكامه تقتصر على الأشخاص الطبيعيّين الذين يملكون حسابات فرديّة، فيما تستثني الصناديق التعاضديّة التي تضمّ أموالاً لعشرات الألوف من أعضاء نقابات المهن الحرّة والمعلّمين، وتحرمهم وعائلاتهم من الاستفادة من ادّخاراتهم الاجتماعيّة. وبذلك، فإنّ حاكميّة «المركزي» وأصحاب المصارف يسعون – وبمباركة الحلقة الطائفيّة التي نجحت في تحويل جزء كبير من ودائعها إلى الخارج – إلى تجنيب المصارف تسييل موجوداتها للتعويض على المودعين، ولا سيّما أعضاء النقابات الذين قاموا بإيداع أموالهم في صناديق الادّخار الإلزامي.

 

مصدرجريدة الأخبار - حسن شري
المادة السابقةسلوك سلامة المريب محاسبياً
المقالة القادمةمفاجأة «توتال»: تأجيل التنقيب في البلوك 9