يعود السجال حول مد خطوط التوتر العالي في المنصورية فوق الأرض او في جوفها الى ما يفوق العشر سنوات، ادلت خلالها القوى السياسية بدلوها كما الاهالي. ولكن الصدمة الكبرى كانت مع تراجع معظم القوى، باستثناء قلّة من الأحزاب والنواب الذين انسجموا مع أنفسهم.
وفي هذا السياق، يمكن التوقّف عند التيار الوطني الحر الذي دارت الأيام وأبحرت سفنه في الاتجاه المعاكس لما انتظره أهالي المنصورية الذين جرت طمأنتهم سابقاً برفض مد خطوط التوتر قرب منازلهم، لتتبدّل الأمور بين ال ٢٠٠٨ وال ٢٠١٩، فيتحوّل موقف قيادة التيار من الممانع الى الموافق، ويتحوّل الاهالي الى ما يشبه الزوج المخدوع.
وللتذكير بالوقائع والمستندات، فقد بنى التيار الوطني الحر موقفاً رافضاً وبشدة لمد خطوط التوتر فوق الأرض. وتجسد ذلك بالعديد من التصريحات، منها ما ادلى به العماد ميشال عون في 18 آب 2008 جاء فيه “هناك مشكلة الكهرباء في المنصورية – عين نجم، حيث تحول فيها خط التوتر العالي الى فوق المناطق السكنية وهي تشكل خطرا والسكان يخشون من الكوارث الطبيعية. ونحن نسأل لماذا هذا التحول الى فوق المدارس. هناك عدة حلول أعرفها ولكن لا أريد أن أعرضها. على الحكومة ان تبحث مع مجلس الانماء والاعمار في حل بديل، على أن تؤمن الكهرباء بشكل يحترم القانون ويغذي بشكل متساوي”.
واستند التيار الوطني الحر والعماد عون في رفضهما الى امرين، الأول هو كتاب مفصّل مع الخرائط، صادر عن مجلس الانماء والاعمار بتاريخ 8 آب 2008 ، يؤكد توفر الامكانية التقنية لمد خطوط التوتر في جوف الأرض. اما الامر الثاني، الذي فهو دراسة طبية صادرة عن جهة محايدة وهي الجامعة اليسوعية، موقّعة من عميد كلية الطب تؤكد الضرر الناتج عن تلك الخطوط وتسببها بامراض عدة، منها السرطان.
ولكن، شاءت الظروف ان يتسلم الوزير جبران باسيل وزارة الطاقة في العام 2011، ليبدأ بعدها مسلسل التراجع من الرفض القاطع الى التسويق، وصولاً الى الدفاع الشرس، كما هو حاصل اليوم مع الوزيرة ندى البستاني، التي تكاد ان تنسف كل ما نادى به جنرال الرابية، قبل انتقاله الى بعبدا.
وفيما حذفت وزيرة الطاقة في مؤتمرها الصحافي الأخير امكانية مدّ الخطوط تحت الأرض في المنصورية، فالمستندات والخرائط تؤكد وجود خطوط التوتر العالي تحت الأرض في كل من المكلس وبيروت وعرمون والأشرفية وأماكن أخرى، ما يناقض حجج البستاني ومدير عام مؤسسة كهرباء لبنان الذي جلس الى جانبها في المؤتمر.
والمضحك المبكي في هذا الملف ان الدولة التي تكبدت 200 مليون دولا لمد تلك الخطوط تحت الأرض في بيروت، ترفض ان تدفع 10 ملايين في المنصورية ولأسباب واهية مستندة الى دراسة صادرة عن كهرباء فرنسا تؤكد ان خطوط التوتر المستخدمة تتماشى مع المعايير الاوروبية، ولكن غاب عن بال مطلقي هذه النظرية انه يكاد يصح فيهم قول المتنبي “فيك الخصام وانت الخصم والحكم”، إذا ان كهرباء فرنسا هي الاستشاري المشرف على المشروع!