ربما ستنتهي الفوضى التي ضربت أسواق الصرف العالمية في عهد الرئيس الأميركي الخاسر دونالد ترامب، بسبب السياسات النقدية المضطربة التي نفذتها إدارته والتعليقات والتغريدات المتضاربة والمتناقضة التي صدرت منه ومن مساعديه حول الدولار طوال السنوات الأربع الماضية. تارة يعلن ترامب أنه يريد دولاراً قوياً، ثم يعود في اليوم نفسه ليقول إن الدولار القوي يخدم منافسي الولايات المتحدة، وأنه سيقوم بالتدخل في السوق لخفض سعر صرف العملة الأميركية، كما حدث في 26 يوليو/ تموز 2019، حينما قال إن الدولار القوي شيء جميل لكنه يجعل المنافسة أمرا صعبا، مضيفاً أنه لا يستبعد اتخاذ إجراءً من أجل إضعاف العملة الأميركية. وتناقضت تعليقات ترامب في ذلك الوقت مع تصريحات المستشار الاقتصادي للبيت الأبيض لاري كودلو، الذي جزم بأن الولايات المتحدة لن تتدخل في أسواق العملات. وكذا تتناقض مع تصريحات نائب مساعد سابق في وحدة التحليل الاقتصادي الدولي في وزارة الخزانة هو براد سيتسر، الذي قال إن سياسة الدولار القوي انتهت بمجرد شكوى ترامب من قوة الورقة الخضراء.
هذه التصريحات المتناقضة لترامب ومستشاريه أربكت كبار المستثمرين في الدولار. ومعروف أن سياسة ترامب الاقتصادية تركزت حول مبدأ “أميركا أولاً” واستخدمت أدوات الميزان التجاري في تحديد علاقاتها مع دول العالم، كما كانت ترغب في زيادة الصادرات وخفض العجز التجاري الأميركي، ولكنها فشلت في تحقيق أي من الأهداف المذكورة وانتهت بأضعاف سعر صرف الدولار.
ويعيب خبراء الاستراتيجيات النقدية والاقتصادية على ترامب وإداراته أنه يريد تنفيذ شعار “أميركا العظمى” الذي رسمه للولايات المتحدة، بـ”استراتيجية قزمية” تهتم بجزئيات غير أساسية وتهدم الأسس التي بنت مكانة “أميركا العظمى”، والتي يأتي على رأسها الدولار القوي الذي يهيمن على تسوية التجارة وأسواق الصرف العالمية ويحدد مصير دول، فهو لا يزال يهدم حكومات ويبني نظما جديدة ويصنع تحالفات.
ووفق الأرقام الصادرة عن مؤسسات مالية دولية، فإن الدولار يهيمن على التجارة الخارجية للدول والاحتياطات النقدية العالمية وأسواق الصرف التي يقدر حجمها بنحو 6.6 تريليونات دولار، كما أنه عملة “البترودولار” التي تحتاجها جميع الدول المستهلكة للبترول ومشتقاته، وبالتالي ينظر العديد من أساطين الاقتصاد في أميركا إلى التلاعب بالدولار على أساس أنه تلاعب بمكانة “القوة العظمى” للولايات المتحدة.
في هذا الشأن، انتقد وزير الخزانة الأسبق في عهد الرئيس السابق بيل كلينتون الذي عمل كذلك رئيساً لجامعة هارفارد، لاري سمرز، سياسات دونالد ترامب التي تلاعبت بمركز الدولار. وبحسب سمرز، فإنه “ليس من العقل في شيء ألا تهتم الإدارة الأميركية في عهد ترامب بسعر صرف الدولار وتعمل على خفضه أمام العملات الرئيسية”. ويقول في مذكرة ينصح فيها وزير الخزانة الأميركي المقبل: “الوقت قد حان للعودة للدولار القوي”.
لكن ما الذي تتوقعه أسواق الصرف خلال عهد الرئيس المنتخب جو بايدن الذي سيتولى فعلياً إدارة الولايات المتحدة في 20 يناير/ كانون الثاني بعد موافقة ترامب على نقل سلس للسلطة في العام المقبل؟ بات من المتوقع على نطاق واسع أن رئيسة مجلس الاحتياط الفدرالي(البنك المركزي الأميركي) السابقة، جانيت يلين، ستصبح وزيرة الخزانة في عهد بايدن، وربما لن تجد معارضة تمنع ترشيحها للمنصب داخل الكونغرس. كما من المتوقع أن تبنى الإدارة الاقتصادية والمالية في عهد بايدن على نمط محافظ بعيداً عن الفوضى التي سادت في عهد ترامب.
ويقوم مبدأ الحزب الديمقراطي على نظرية “الدولار القوي يعكس قوة الاقتصاد الأميركي”، وهو مبدأ نفذته إدارات الحزب الديمقراطي المتعاقبة منذ عهد الرئيس بيل كلينتون مروراً بعهد باراك أوباما، ولكن قد تجد إدارة بايدن صعوبة في تنفيذه بسبب المتاعب الاقتصادية التي مر بها الاقتصاد الأميركي ولا يزال على خلفية جائحة كورونا، إذ إن إدارة بايدن ستعمل على ضخ مزيد من الدولارات في السوق لتوفير السيولة وإنعاش الاقتصاد، وربما تجيز حزمة تحفيز تفوق تريليوني دولار في حال حصولها على أغلبية في مجلس النواب الأميركي بعد انتخابات ولاية جورجيا، وبالتالي فإن الكتلة الدولارية المتدفقة في السوق ربما لن تسمح للدولار بالصعود خلال السنوات الأولى من حكم بايدن.
في هذا الصدد، يتوقع خبراء أنه في حال تسلم يلين لمنصب وزيرة الخزانة، فإنها ستتبع سياسة وسطية تجاه الدولار، وربما ستتفادى التعليق حول سعر صرفه كما كانت تفعل وقت توليها منصب محافظة البنك الفيدرالي. وسبق لهذه السيدة أن قالت إنها لا تحبذ الدولار القوي أو الضعيف. ولكن خبراء في أسواق الصرف يرون أن الدولار على المستوى القصير، وتحديداً خلال العام المقبل، سيواصل التراجع مقابل العملات الرئيسية. في هذا الشأن، يقول استراتيجي العملات بمصرف “ستاندرد تشارترد” ستيفن بارو، في مذكرة لعملاء المصرف: أرى أن الدولار سيتراجع في عهد بايدن ولكن مستقبله سيأخذ أهمية كبيرة. وحول ما إذا كانت إدارة بايدن ستتدخل في سوق الصرف، قال بارو: أعتقد أنه قد انتهى العهد الذي كانت فيه الدول الكبرى لا تتدخل في أسواق الصرف العالمية.
وبينما يتفاءل بعض الخبراء بأن الاقتصاد الأميركي سيعود للنمو القوي في النصف الثاني من العام المقبل بسبب توفر الجرعات الكافية من لقاح كورونا لمواطني الولايات المتحدة قبل الدول الأخرى، وبالتالي سيعزز ذلك سعر صرف الدولار مقابل العملات الرئيسية الأخرى، مستفيداً من الجاذبية القوية للعائد الدولاري على أدوات المال الأميركية، خاصة السندات وأذون الخزانة والأسهم. ومعروف أن جاذبية هذه الأدوات من أكبر عوامل رفع الطلب العالمي على العملة الأميركية، لكن في المقابل يرى متشائمون أن الدولار سيخسر الكثير خلال عهد بايدن.
في شأن التفاؤل بمستقبل الدولار، يقول خبير الاستثمار بمصرف “دويتشه بانك”، روبن وينكلر: “إن الولايات والمتحدة وبريطانيا ستتمكنان من تطعيم مواطنيهما ضد فيروس كورونا بحلول النصف الثاني من العام المقبل قبل الدول الأخرى، وإن ذلك سيساهم في عودة النمو الاقتصادي للولايات المتحدة”.
من بين المتشائمين حول مستقبل الدولار، خبير أسواق الصرف بمصرف “سيتي غروب” كالفن تسي، الذي يرى أن الدولار سيخسر نحو 20% من حصته في الاحتياطات الدولية لدى البنوك المركزية العالمية خلال عهد بايدن. وتفوق حصة الدولار في احتياطات البنوك المركزية العالمية من العملات الصعبة نسبة 62%، ويأتي بعده اليورو بحصة تفوق 20%. ولا تزال حصة العملة الصينية (اليوان) ضعيفة جداً في الاحتياطات الدولية على الرغم من الثقل الاقتصادي والتجاري للصين.
وفي نهاية سبتمبر/ أيلول الماضي أطلق الخبير الاقتصادي وعضو هيئة التدريس بجامعة ييل، ستيفن روتش، تحذيرا جديدا بشأن انهيار الدولار، حيث قال إن العام القادم سيكون قاسيا على الدولار.
على صعيد سياسة الفائدة ، أكد رئيس مجلس الاحتياط الفدرالي جيروم باول، أنه لن يرفع سعر الفائدة التي تراوح حالياً بين صفر و0.25%، حتى في حال ارتفاع معدل التضخم خلال العامين المقبلين. على هذا الصعيد، يرى محلل العملات بمؤسسة “أتش واي سي أم” الأميركية، جالز كوفلاند، أن سعر الفائدة الأميركية المنخفض سيتواصل خلال الأعوام الأولى من حكم بايدن، حتى في حال ارتفاع معدل التضخم فوق المستوى المستهدف من قبل بنك الاحتياط الفيدرالي البالغ 2%.
ويتوقع كوفلاند أن المستثمرين سيهجرون الدولار خلال العام المقبل ويشترون العملات الناشئة، خاصة عملات مثل اليوان الصيني والروبل الروسي والليرة التركية. كما أن الين الياباني سيواصل الارتفاع مقابل الدولار بسبب مركزه كعملة “استثمار آمن” في آسيا.
يذكر أن الدولار يعد من أهم أدوات السياسة الخارجية الأميركية إلى جانب المؤسسات المالية متعددة الأطراف مثل البنك الدولي وصندوق النقد، إذ إن الولايات المتحدة تستخدم الدولار في مساعدة الحكومات التي تتحالف معها وتمنحها فرصة الحصول على قروض دولارية بشروط ميسرة، بينما تشدد شروط القروض على الدول التي تعارض سياساتها الخارجية. كما أن أميركا تستخدم الدولار بكثافة في سياسات الحظر الاقتصادي والمالي، إذ إنه يشكل نسبة 88% من التسويات التجارية في العالم، كما تعتمد عليه الدول في شراء السلع الرئيسية.