في محاولةٍ لتأخير «موعد» الانهيار الاقتصاديّ الكامل، يسعى المسؤولون اللبنانيّون إلى إيجاد سبل المدّ بعمر الدولارات المتبقيّة في المصرف المركزي. ولأن النفط واحدٌ من وجهات «صرف» تلك الدولارات، فإن الدولة اللبنانية تبحث عن سبلٍ لـ«ترشيده»، مستفيدةً من العرض العراقيّ المقدّم، لكنّها – في الوقت عينه – تبحث عن حلّ المعضلة الأبرز: من يكرّر النفط العراقيّ؟
بعيداً عن «حساباتها» الخاصّة محليّاً ودوليّاً، وبعد انفجار مرفأ بيروت، قرّرت الحكومة العراقيّة برئاسة مصطفى الكاظمي رفع «مستوى» الدعم والتعاون مع الحكومة اللبنانيّة. يُنقل عن الكاظمي دعواته المتكرّرة، في زياراته ولقاءاته مع رؤساء الدول الإقليمية والغربيّة، إلى الوقوف مع لبنان. آخر تلك الدعوات كانت في مؤتمر «داعمي لبنان» الذي عُقد بدعوةٍ من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مطلع الشهر الجاري.
وفق معلومات «الأخبار»، قرّرت بغداد تقديم ما أمكن من مواد أوليّة، من شأنها أن تسهم في حلحلة الأزمة الكهربائيّة، خصوصاً أن لبنان مهدد مع مطلع العام المقبل بظلامٍ دامس. فلا الحكومة المستقيلة ولا المصرف المركزي قادران على تأمين الاعتمادات الماليّة بالعملة الصعبة لاستيراد الكميّات النفطيّة اللازمة لتشغيل المعامل الكهربائيّة.
أمس، حلّ وزير الطاقة والمياه ريمون غجر ضيفاً على وزير النفط العراقي إحسان عبد الجبار. أكّد الأخير – وفق بيانٍ صادرٍ عنه – حرص العراق على تعزيز العلاقات الثنائية، مضيفاً أن «الاجتماع جاء تواصلاً مع المشاورات التي عقدت في وقت سابق بين البلدين». وأشار إلى أن ثمة «اتفاقاً على بيع كميةٍ من النفط الأسود الفائض عن حاجة المصافي العراقيّة إلى لبنان خلال العام 2021، وبكميات محدودة سيتم الإعلان عنها لاحقاً، ووفق أسعار النشرة العالمية».
من جانبه، قال غجر إن «الاتفاق يقضي باستيراد كمية من وقود النفط الأسود، وفق أسعار النشرة العالمية، لتغطية حاجة محطات توليد الطاقة الكهربائية في لبنان»، مضيفاً أن «الجهات المعنية في الوزارتين ستضع آليات تنفيذ الاتفاق».
وفيما وصفت مصادر وزارة النفط العراقيّة أجواء اللقاء بـ«الإيجابيّ جدّاً»، أكدت لـ«الأخبار» أن «الجانبين بحثا الآليات التنفيذيّة»، من دون أن تخوض في التفاصيل، علماً بأن اللقاءات الثنائيّة السابقة أُحيطت بتكتّمٍ شديدٍ من الطرفين، بإصرار من الجانب العراقي، مع الأخذ في الاعتبار أن «معارضي» حكومة الكاظمي يرفضون شعار «دعم لبنان» في وقتٍ ترزح فيه بلاد الرافدين تحت مشكلة اقتصاديّة مستفحلة، لاحت بوادرها في عجز الحكومة العراقيّة – قبل أسابيع – عن تسديد رواتب موظفي القطاع العام في الموعد المحدّد، وخفض قيمة الدينار أمام الدولار.
مسؤولٌ في الحكومة العراقيّة كشف لـ «الأخبار» أنّه منذ 3 أسابيع عُلّقت المباحثات بعدما «عجز الجانب اللبناني عن تأمين مصدرٍ يكرّر فيه النفط العراقي الأسود».
أساس المشكلة أن لبنان لا يملك أي محطّةٍ لتكرير النفط، فيما معامل توليد الطاقة الكهربائيّة تعمل على «الفيول أويل» (مادة ناتجة عن تكرير النفط الأسود). غجر، سبق أن طلب من نظيره العراقي تأمين كامل الحاجة اللبنانيّة لهذا الغرض، غير أن الأخير أكد عدم قدرة بلاده على ذلك راهناً، متعهّداً بتأمينها «على مراحل».
بادئ الأمر، لم يتوصّل الجانبان إلى صيغةٍ ماليّةٍ مشتركة؛ حكومة دياب أرادت تسديد «الفواتير» بالليرة اللبنانية. رفضت بغداد هذا المقترح في ظل انهيار العملة اللبنانيّة، وهي تبحث – أساساً – عن موارد/ أسواقٍ جديدةٍ لتوسيع إيراداتها الماليّة. تالياً، قدّمت حكومة دياب مقترحاً آخر، يقضي بتسديد «الفواتير» بالدولار ، على أن تخفّض بغداد – في المقابل – من قيمتها وبنسبةٍ بلغت 30 في المئة. رفضت بغداد مجدّداً هذا الطرح. وبعد أخذٍ ورد، وزياراتٍ بعيدةٍ عن الأضواء للمدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم للعاصمة العراقيّة، توصّل الجانبان إلى الصيغة التاليّة: تبيع بغداد «النفط الأسود» وفق السعر العالمي، على أن تسدّد بيروت «فواتيرها» بالدولار بعد عامٍ، من دون أي فائدةٍ، ووفق «سعر يوم البيع».
قَبِل الطرفان بهذا الطرح. دخل النقاش في مرحلته الثانية: أين يكرّر لبنان النفط»؟ أمام هذه المعضلة، سعى رئيس مجلس النواب، نبيه برّي، إلى التواصل مع الجانب المصري لإيجاد صيغةٍ تذلل هذه العقبة. إضافةً إلى «فواتير» النفط الأسود، تتحمّل بيروت كلفة النقل البحري من العراق إلى مصر فلبنان، عدا عن «فواتير التكرير». حاول برّي إقناع المصريين باعتماد آلية الدفع لاحقاً، كتلك المعتمدة مع العراقيين. لكن المصريين رفضوا، واقترحوا تكرير كل شحنة مقابل الحصول على جزء منها. رفض العراقيّون واللبنانيون المقترح المصري؛ فالشحنة العراقيّة لن تسدّ الحاجة أساساً، وعليه لا يمكن التفريط بأي نسبةٍ منها. حاول اللبنانيون البحث عن بدائل، أبرزها الطريق/ الأنبوب البرّي من العراق إلى سوريا فلبنان. أبدت دمشق جاهزيّتها لذلك، لكنّها أبلغت بيروت بضرورة تحمّل كلفة إصلاح الأنبوب البرّي (خط كركوك – بانياس). إضافةً إلى مخاطر تخريبه، فإن كلفة إصلاحه باهظة، وهذا ما لا تقوى عليه الحكومة اللبنانيّة، الأمر الذي «شطب» هذا الخيار عن قائمة الحلول المتاحة.
وفي مسعىً لحلّ هذه العقدة، زار غجر بغداد. حتى الساعة، تؤكّد بغداد عجزها عن تكرير حاجات لبنان النفطيّة، ولا يزال البحث جارياً عن طرقٍ لتأمين ذلك، زد عليها تأمين الكميّة المتبقيّة، فبغداد لن تؤمّن الكميّة الكاملة. وفي هذا الإطار، يبرز حراك إبراهيم، على خطّ بيروت – الجزائر، ومسعاه لإقناع الحكومة الجزائريّة بضرورة استمرار اتفاق الحكومة اللبنانيّة مع شركة «سوناطراك»، التي قررت التوقف عن تزويد لبنان بالفيول، بعد ملاحقتها قضائياً في بيروت في ملف «الفيول المغشوش». وبحسب مصادر متابعة، ثمة بوادر إيجابية بأن توافق الجزائر على الاستمرار في تزويد لبنان بالشحنات التي سبق أن طلبها من الفيول.