تحديد حجم الخسائر وتوزيعها بين الجهل والتجاهل

يحتل بند التفاوض مع الدائنين سواء كانوا داخليين أو خارجيين رأس قائمة الاولويات لأي برنامج إنقاذي. فإعادة هيكلة الدين المتراكم لا تقتصر على كونه التزاماً على الدولة اللبنانية ومؤسساتها فحسب، بل منطلقاً لتحقيق العدالة أولاً، وتحديد مستقبل الاقتصاد اللبناني ثانياً. هذه المعادلة الدقيقة ما زالت تدور منذ بداية الأزمة في حلقة مفرغة، مدعومة بفترات فراغ وتعطيل طويلة على مستوى السلطة التنفيذية واختلاف حاد في الآراء بين الكتل السياسية.

التفاوض الجدي مع الدائنين لن يحدث إلا بعد الانتخابات الرئاسية القادمة وتشكيل حكومة فاعلة. فالاتفاق الذي يتطلب وجود سلطة كاملة الصلاحية محمية بمظلة دولية، خصوصا في ما يتعلق بالدين بالعملة الاجنبية، لن يتحقق في المدى القريب حتى لو تشكلت حكومة أصيلة بسرعة قياسية. ذلك لكون الحكومة ستتحول إلى تصريف الاعمال مطلع تشرين الثاني المقبل، أي بعد 4 أشهر فقط، مع انتهاء عهد الرئيس ميشال عون.

حصة المودعين

يتطلب التفاوض مع الدائنين، بغض النظر عن هويتهم، أمرين أساسيين: الأول، رعاية دولية من قبل جهات موثوقة كصندوق النقد الدولي أو «نادي باريس». والثاني، تقني يشترط تحديد أصل الدين بدقة والفوائد المترتبة عليه واستحقاقاته. ومن أجل تصويب النقاش يرى خبير المخاطر المصرفية د. محمد فحيلي ضرورة التعمق بالشق التقني المصاحب لعملية الهيكلة، وما يترتب عليها من توزيع للخسائر وكيفية تحملها، بين الاطرالمعنية وهم: المودعون، المصارف التجارية، مصرف لبنان والسلطة السياسية.

ينقسم المودعون في القطاع المصرفي اللبناني إلى شقين: مقيم وغير مقيم. وهم يملكون ودائع بالعملتين الاجنبية واللبنانية ولديهم حسابات مجمدة، ولآجال، وحرة أي تحت الطلب. و»كي نستطيع تحديد حجم الودائع بشكل منطقي يجب تحديد سنة الاساس للانطلاق منها وكيفية تحديد الودائع»، بحسب فحيلي. فالودائع تنمو بموجب نمو عضوي ونمو طبيعي.

– النمو العضوي هو النمو الناتج عن الفوائد المدفوعة على الودائع.

– أما النمو الحقيقي فهو الذي ينتج عن التحويلات بالعملة الاجنبية من الخارج إلى الداخل. وهو يدل على الحجم الحقيقي لنمو الودائع.

في ما يتعلق بالشق الاول أي النمو العضوي، يجب مقارنة الفوائد التي دفعت على الودائع بالعملة الاجنبية مع معدل الفوائد السائد عالمياً للفترة نفسها. فإذا كان معدل الفوائد على الدولار عالميا هو 2 في المئة مثلاً، والمصارف دفعت 10 في المئة، فان الفرق البالغ 8 في المئة يؤسس لواقع لا يصب في مصلحة المودعين، يعرف بـ «هرم بونزي» Ponzi scheme. إذ لا يمكن أن يدفع هذا الفرق الكبير وأن يكون فرقاً منطقياً أو مشروعاً. من هنا عند الحديث عن حجم الودائع التي تستوجب الحماية نكون نتكلم عن أصل الودائع والنمو الحقيقي في الودائع وليس تلك التي نمت بشكل عضوي. أما إذا كان النمو بالودائع بالعملة الاجنبية ناتجاً عن تحويلات من الليرة إلى الدولار على سعر الصرف الرسمي 1507.5 فان مسؤولية الخسائر تقع على المودعين والمصارف ومصرف لبنان والدولة لان هذا السعر ليس حقيقياً أنما هو مصطنع ويتطلب حماية كبيرة. أما لجهة الودائع المكونة بالليرة اللبنانية فيجب أن لا تشكل مشكلة كبيرة لان المصرف المركزي لديه صلاحيات بطباعة الليرة وتسديدها.

المصارف التجارية

في ما يتعلق بمسؤولية المصارف التجارية فان البحث من وجهة نظر فحيلي يجب أن يتركز على نوعية توظيفاتها وحدود مسؤولياتها وأي قسم من التوظيفات تتوجب حمايته. وتنقسم التوظيفات إلى التالي:

– الاحتياطي الإلزامي لدى مصرف لبنان مقابل الودائع بالليرة ويشكل 25 في المئة من حجم الودائع.

– توظيفات الزامية مقابل الودائع بالعملة الاجنبية، وتبلغ نسبتها 15 في المئة من حجم الودائع بحسب القرار الاساسي.

– ودائع المصارف لدى مصرف لبنان، التي توجب على الاخير الاحتفاظ بها كسيولة جاهزة غب الطلب. وتتغير مع تغير حجم الودائع.

– حسابات في المصارف غير المقيمة المعروفة بالمصارف المراسلة Correspondent Bank والتي تستخدم لتمويل التجارة الدولية والتحويلات إلى خارج لبنان.

– التوظيفات الأساسية لدى مصرف لبنان.

– توظيفات في الديون السيادية و»يوروبوندز».

– توظيفات في القطاع الخاص وهي قروض تجزئة أو قروض صناعية وتجارية.

أين مسؤولية المصارف في هذه التوظيفات وكيف تُحدد خسائرها:

المخاطر الناتجة عن التسليفات للقطاع الخاص مسؤولة عنها المصارف بنسبة 100 في المئة. ومن واجبها امتصاص أي خسارة مرتقبة من هذه التوظيفات من خلال رأسمالها. ويجب أن تمتلك رأسمالاً كافياً ووافياً يعكس المخاطر التي تأخذها.

أما بالنسبة إلى التوظيفات الاساسية في «سندات الخزينة» و»اليوروبوندز» فمن المعترف به دولياً أن المخاطر عليها عادة ما تكون «صفراً». وهذا قد يكون منطقياً. لكن استمرار المصارف بالاستثمار في الديون السيادية رغم عجز الحكومة الدائم وقيام المركزي بالتسديد عنها بطرق مختلفة يطرح علامات استفهام»، برأي فحيلي. ويوجب على المصارف تحمل جزء من هذه المخاطر من رأسمالها. مع العلم أن الجزء الاكبر من توظيفات المصارف من الديون السيادية بالليرة تتآكل نتيجة التضخم. والجزء الآخر بالعملة الاجنبية «اليوروبوندز» سيخضع لاقتطاع كبير «هيركات» عند إعادة الهيكلة.

النقطة الاكثر جدلاً تبقى بين مصرف لبنان والمصارف التجارية وهي طريقة النظر إلى توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان، أي تلك التوظيفات التي تفوق نسبتها 25 في المئة مقابل الودائع بالليرة أي الاحتياطي الالزامي، و15 في المئة بالدولار. وبرأي فحيلي فان هذه التوظيفات المقدرة بـ 60 مليار دولار تعتبر توظيفات استثمارية لأن المصارف تقاضت عليها فوائد كبيرة. وبالتالي يتوجب على المصارف أن تتحمل من رأسمالها أي خسارة في هذه التوظيفات ممكن أن تنتج عن عجز المركزي عن السداد. وحتى أن صندوق النقد الدولي يعتبرها توظيفات استثمارية، توجب على المصارف أن تضع مقابلها رأسمالاً كافياً لكي تحمي نفسها من أي إمكانية تعثر في هذه التوظيفات، وهذا ما لم يحصل.

بالملخص يعتبر فحيلي أن الخسارة التي على المصارف تحملها هي: كل التوظيفات غير الإلزامية في المركزي. التوظيفات بالديون السيادية بالعملة الاجنبية. وأيضا التوظيفات لدى القطاع الخاص المأخوذة في معظمها مقابل رهونات.

مصرف لبنان

من الطبيعي أن يكون من مصلحة مصرف لبنان الذهاب باتجاه اعادة جدولة الاستحقاقات سواء كانت هذه الاستحقاقات على الدولة أو على المصارف التجارية. إلا أن تحديد الخسارة في مصرف لبنان يعتبر «أمراً شائكاً»، بحسب فحيلي. و»ذلك على الرغم من إساءته الواضحة للأمانة». فبغض النظر عن استقلاليته، فان «مسؤولية إعادة رسملته تقع على الحكومة. ومن الملاحظ أن خطة التعافي المالي الموافق عليها من الحكومة ذهبت باتجاه إعفاء مصرف لبنان من التزاماته تجاه المصارف التجارية كطريقة لاعادة رسملته. وهذه هي الثغرة الكبيرة في كيفية التعاطي مع الخسائر» بحسب فحيلي. «إذ لا يمكن إعفاء مصرف لبنان من التزاماته تجاه المصارف التجارية، ونتوقع أن يكون لمثل هذا الاجراء انعكاسات مدمرة على اموال المودعين. لأن رأسمال المصارف غير قادر على تغطية الخسائر التي لا تقل عن 60 مليار دولار. من هنا تبرز اهمية جدولة وهيكلة هذه الاستحقاقات، لكي لا يكون مصرف لبنان مسؤولاً عن كل الالتزامات مرة واحدة ولا سيما أنها مجدولة لفترات طويلة ومنها ما يستحق في العام 2037. على الرغم من الترابط الوثيق في الخسائر بين المحاور آنفة الذكر والتداخل العضوي في ما بينها، فهذا يجب أن لا يمنع حماية الودائع الحقيقية يقول فحيلي وهي تلك الودائع التي نمت بشكل طبيعي».

بالوصول إلى المسؤولية السياسية فان القرار الاهم الذي يجب أن تتخذه الدولة هو المباشرة باقرار الاصلاحات بموجب قوانين تصدر عن السلطة التشريعية وتنفذ من الحكومة. وفي مقدم هذه القرارات بحسب فحيلي هو «الجلوس مع الدائنين والتفاوض معهم على إعادة هيكلة وجدولة الدين العام. فمن شأن هذا القرار منفرداً تخفيف الكثير من الضغوضات على القطاع المالي، وإعطاء بارقة أمل عن بدء الدولة معالجة مشاكلها وفي مقدمها تخفيض النفقات وزيادة الايرادات ووضع النمو على مسار واضح.

مصدرنداء الوطن - خالد أبو شقرا
المادة السابقة“إيديولوجية الصمود” في قطاع النقل!
المقالة القادمة“جبهة المصارف” تتصدّع… و”الموارد” أول المنشقّين!