نشرت منصة مبادرة سياسات الغد (للباحثين سامي زغيب ووسيم مكتبي) تقريراً تحت عنوان «العرف الجديد: المشهد المتغير للقوى العاملة في لبنان» أكدت فيه ان سلسلة من الصدمات الاقتصادية الشديدة على مدى السنوات الأربع الماضية تمخضت عن اضطرابات كبيرة ضربت الأسواق اللبنانية وأدت إلى هجرة رأس المال من البلاد. وتعدت تبعات هذه الصدمات حدود المخاوف الاقتصادية المباشرة لتترك أثراً لا يُمحى على رأس المال البشري، راسمةً ملامح مشهد اجتماعي واقتصادي أكثر هشاشةً وتزعزعاً من ذي قبل. ويتجلى هذا التحول بوجه خاص في سوق العمل، حيث أخذت الفوارق التقليدية بين الأوضاع الوظيفية تضمحل شيئاً فشيئاً. ففي الوقت الحاضر، يلجأ عدد كبير من موظفي القطاع العام إلى مزاولة وظائف ثانوية – بما في ذلك في السوق غير الرسمية – في حين تنجذب العمالة ذات المهارات العالية نحو العمل لحسابها الخاص عن بُعد. وفي ما يلي نص التقرير:
سوق العمل
ان تناول منظومة العمل المتغيرة في لبنان يهدف للإسهام في حوار أكثر دقة حول مشهد العمل المستقبلي في البلاد. في الفترة التي سبقت الأزمة، اعتمدت منظومة العمل في لبنان تقسيماً واضح المعالم، حيث صُنف السكان في سن العمل إلى فئات منفصلة. شملت هذه الفئات القوى العاملة، وتضم العاملين والباحثين عن عمل، ومن هم خارج القوى العاملة، أي من لا يعملون ولا يُعتبرون عاطلين عن العمل. ويمكن للأفراد ضمن القوى العاملة إما أن يكونوا عاطلين عن العمل (أشخاص غير موظفين ولكنهم يبحثون عن عمل) أو موظفين في القطاع الرسمي أو غير الرسمي. ويتكون القطاع الرسمي من القطاعين العام والخاص الرسميين، في حين يشمل القطاع غير الرسمي العاملين لدى جهات غير مسجلة. ومن الممكن أن يكون العاملون في القطاعين الرسمي وغير الرسمي من ذوي المهارات العالية أو المهارات المنخفضة.
كان هذا التقسيم لمنظومة العمل مؤشراً موثوقاً به الى المكانة الاجتماعية والاقتصادية ومحدِداً رئيسياً لإمكانية الحصول على مزايا الضمان الاجتماعي وشرائح الأجور العليا. وكان التسلسل الهرمي لمزايا الضمان الاجتماعي يمنح ميزة تفضيلية لموظفي الخدمة المدنية والعسكريين، يليهم موظفو القطاع الخاص الرسمي، في حين لم يكن للعاملين في القطاع غير الرسمي حق الحصول (رسمياً) على هذه المزايا. وفي ما يتعلق بالأجور، كان موظفو القطاع الخاص الرسمي ذوو المهارات العالية يتقاضون أعلى الرواتب، يليهم موظفو الخدمة المدنية – ومعظمهم من الطبقة الوسطى – في حين كان العاملون في القطاع غير الرسمي من ذوي المهارات المنخفضة الأقل أجراً. إلا أن الأزمة حولت هذه التسلسلات الهرمية إلى ذكرى من الماضي، مخلّفةً في أعقابها مشهداً معقداً ومتغيراً.
تحولوا إلى القطاع غير الرسمي
تتقلص القوى العاملة في لبنان وتتحول بشكل متزايد نحو القطاع غير الرسمي والوظائف التي تتطلب مهارات منخفضة: أدى التباطؤ الاقتصادي الشديد إلى انخفاض المشاركة في القوى العاملة من 49% عام 2018 إلى 43% في العام 2022. إلى ذلك، ارتفع معدل البطالة ثلاثة أضعاف تقريباً، مستحوذاً على 30% من القوى العاملة. وحثّت الأزمة التي طال أمدها، إلى جانب فقدان الثقة في الدولة، الناس على التوجه نحو القطاع غير الرسمي، بحيث ارتفعت نسبة العاملين فيه من 55% عام 2018 إلى 62% عام 2022، علماً أن العاملين في القطاع غير الرسمي لا يتمتعون بالحماية القانونية أو بالحق في الحصول على استحقاقات الضمان الاجتماعي.
أما في ما يخص توزيع المهارات، فلا تزال الوظائف منخفضة المهارات تهيمن على القطاع غير الرسمي (83% في عام 2022) وقد أصبحت أكثر شيوعاً في القطاع الرسمي، حيث ازدادت نسبتها من 50% في عام 2018 إلى 62% في عام 2022. ويرجع هذا التحول إلى عدم القدرة على توليد فرص عمل رسمية عالية المهارات، وعدم رغبة أصحاب العمل في توفير أجور تنافسية، وهجرة جزء كبير من القوى العاملة ذات المهارات العالية إلى الخارج سعياً وراء فرص أفضل.
أدت الأزمة إلى تآكل قيمة الأجور والتأمينات الإجتماعية
في خضم مشهد العمل المتحول هذا، انخفضت الأجور بشكل حاد. ففي عام 2022، كان أقل من 3% من القوى العاملة يجني أكثر من 1000 دولار شهرياً – مقارنةً بنسبة 42% في عام 2018 – وأكثر من نصف القوى العاملة يعيش على دخل يقل عن 200 دولار شهرياً.
وفي الوقت نفسه، أصبحت هياكل نظام التأمين الاجتماعي في لبنان، بما في ذلك الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وتعاونية موظفي الدولة والعسكريين، فضلاً عن أموال النقابات المهنية المودعة لدى المصارف، غير قابلة للتسييل في ظل التدهور الحاد الذي شهدته العملة الوطنية. وفي هذا السياق، لم تشهد تغطية التأمين الصحي التي يقدمها القطاع الخاص، والتي لا تشمل إلا 9% فقط من القوى العاملة، أي زيادة تُذكر. كما أصبحت معاشات التقاعد ومكافآت نهاية الخدمة التي تقدمها صناديق الضمان العامة بلا قيمة، تاركةً العديد من المتقاعدين في البلاد ومَن هم على وشك التقاعد بلا حماية كافية في سن الشيخوخة.
مواطن الضعف آخذة في الإرتفاع
تغيرت التسلسلات الهرمية التي كانت سائدة قبل الأزمة إلى حد كبير، ولم يعد من الممكن التعويل على التصنيف الوظيفي لتحديد الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية. وبات خيار الرعاية الصحية المخصخصة المتوفر لقلة محظوظة التأمين الاجتماعي المجدي الوحيد الذي يحصل عليه العاملون. وعلى الرغم من حدة الأزمة وتزايد حجم العمالة غير الرسمية، لا يزال نظام الحماية الاجتماعية في لبنان مجزأً وغير مجدٍ، مع لجوء الدولة لتدخلات غير فعالة وغير تقليدية تستفيد منها بشكل غير متناسب قِلة مختارة.
كانت أجور موظفي الخدمة المدنية والعسكريين هي الأكثر تضرراً من هذه الأزمة المستمرة، فهم يتقاضون أجوراً ثابتة بعملة فقدت أكثر من 95% من قيمتها. كما تُعتبر المساعدات الإضافية التي يتلقونها علاوة اجتماعية تكميلية وليست تقييساً للأجور التي ستُحتسب على أساسها استحقاقات معاشاتهم التقاعدية.
إلى ذلك، وعلى الرغم من الدولرة شبه الكاملة للاقتصاد، لا يزال العديد من المشاركين النشطين في القوى العاملة يتقاضون أجورهم بالليرة اللبنانية، أو بالدولار الأميركي ولكن بقيم مخفّضة.
وتتعزز ممارسات تقليص الأجور بفعل الطبيعة المركزة للأسواق اللبنانية واختلال توازن القوى بدرجة حادة بين القوى العاملة غير الرسمية، التي تمثل الأغلبية الساحقة وتتمتع بوصول محدود إلى المنظومة القانونية المتداعية في البلاد، وأصحاب العمل الذين يتمتعون بالنفوذ السياسي.
الوصفة السحرية لإقصاء الدولة
مع دخول لبنان عامه الخامس من الأزمة، يزداد الاضطراب في سوق العمل أكثر فأكثر. فقد أصبحت الوظائف غير المنتظمة هي العرف الجديد السائد، مشكلةً شبكة أمان غير رسمية للقوى العاملة التي بقيت في البلاد والتي تبحث عن مصادر للدخل. ومع ارتفاع معدل البطالة، وانتشار الدولرة والتضخم، وانخفاض الطلب على العمالة ذات المهارات العالية، يُضطر العمال إلى اللجوء إلى استراتيجيات سلبية سعياً للتأقلم. ويشكل ظهور منصات العمل الرقمية الجشعة التي تستغل وفرة العمالة الضعيفة والأطر التنظيمية الضبابية لتوظيف العمال بأجور منخفضة والتهرب من منحهم كافة حقوقهم أحد مظاهر هذا المشهد.
فبالنسبة للعمال الذين يعيشون في ظروف غير مستقرة ويبحثون عن فرص لكسب العيش، قد لا يبدو الحصول على التأمين الاجتماعي وحقوق العمل أولوية فورية في سياق الأزمة، ولكن الآثار غير المباشرة لذلك قد تقوّض دور الدولة في العقد الاجتماعي. ويُعتبر هذا الأمر خطيراً، لا سيّما وأن المؤسسات المعنية بإحصاءات العمل في لبنان لا تحتسب أصحاب العمل الحر والعاملين في المنصات الرقمية ضمن القوى العاملة في القطاع الخاص، مما يجعل هذه الشريحة المتنامية خفيّة عن أعين الدولة.